الديماغوجيا والخطاب الديني
الدكتور محمد العايدي
25-02-2024 03:02 PM
يكثر الحديث عن تجديد الخطاب الديني وعند تتبع ما قيل في هذا المجال تجد اكثرهم يسلط الضوء على التجديد الشكلي للخطاب بان يطالب باللباس المناسب او فن الكلام والخطابة من طريقة الكلام ونبرة الصوت وغيرها وكل هذه الأمور ليست هي جوهر التجديد في الخطاب الديني.
وقد يظن البعض الاخر ان التجديد يكمن في انتقاء الموضوعات التي يجب الحديث فيها للجمهور وهذا ايضا ليس هو جوهر التجديد في الخطاب الديني لان كل الموضوعات ما دام انها مستمدة من نصوص الوحي وروح الشريعة فهي موضوعات مقبولة وهي من الدين عندئذ وراجعة اليه فلا يمكن لاحد ان ينتقد هذا الموضوع او ذاك فالدين وحدة واحدة وما تفرق من الموضوعات منتهاه في النهاية إلى الدين الواحد.
وبعضهم يتحدث عن التجديد في الخطاب الديني من حيث القدرة على تجيش الناس وتحميسهم ويوضع هذا الأمر مقياسا لبراعة الخطيب او المتحدث عند العامة مع ان هذا ليس هو التجديد بل هذه ديماغوجيا دينية اي خطاب غوغائي لا يرتبط بالفهم الصحيح للدين وبمقاصده الشرعية .
ولكن ما هو الخطاب الديني المراد ؟
للإجابة على هذا السؤال يجب أن نفهم الغاية من الخطاب الديني وغاية الخطيب من كلامه ومدى ادراكه للكلام بحيث لا يحيد عن الحق فيه .
هذه هي المعادلة التي يجب النظر فيها من اجل تجديد الخطاب الديني.
فالقضية الاولى: وهي الغاية من الخطاب ومعلوم ان الغاية من الخطاب الديني هو ايصال الحق الذي هو الوحي للمخاطب لا غير ونقل مراد الله ورسوله للسامع وليس نقل آراء المتكلم الشخصية وتحليلاته فهذا من اخطر المزالق عند الخطباء حيث يجعل من نفسه محورا للحق والباطل وليس المحور هو الوحي فالخطيب الرباني هو الذي يكون قصده ومراده إيضاح مراد الله ورسوله وشرعه لا آرائه ومراداته وهذا الفرق بين الخطاب الديني وبين غيره من الخطابات العامة التي يظهر فيها المتحدث نفسه وتحليلاته وآرائه من غير التفات إلى مرجعية الوحي وهذا جعل الكثير من الخطابات الدينية اليوم لا تختلف في غايتها عن الخطابات العامة الأخرى بحيث صار كلا الخطابين يريد ان يوصل آرائه ومفرداته للناس لا كلام الوحي والشرع بل يشعر السامع في بعض الحالات انه يستمع لنشرة اخبار لا إلى كلام الوحي.
القضية الثانية: ان نحدد غاية الخطيب او المتكلم من كلامه هل غايته أن يلهب عواطف الناس او أن يحرض الناس على امر معين او يحصل على تأييد شعبي وجمهور كبير من خلال ارضائهم بكلام هو أقرب إلى الديماغوجية من التركيز على بيان الحقائق وتوضيحها للناس وهذا الأمر لتحديده مقاييس معينة بحيث يتميز الكلام الغوغائي عن الكلام الذين يتعرض للحقائق منها اتباع الشك والظن في الخطاب وعدم التأكد من المعلومات وعدم وجود إحصاءات دقيقة او مصادر موثوقة لان هدفه في الخطاب الديماغوجي هو التأثير على عواطف الناس وكسب تأييدهم وإرضائهم لا إيصال الحقائق لهم.
والقضية الثالثة: وهي مدى ادراك المتكلم او الخطيب لعمق الكلام الذي يلقيه على الناس ام هو سطحي الفهم والإدراك بحيث قد يحمل الموضوع اكثر مما يحتمل او يفسره تفسيرا لا يتناسب مع روح الشريعة ومقاصدها وهنا لا بد من ان يكون الموضوع مهضوما للمتكلم متعمقا في فهمه الصحيح مدركا لأبعاده .
وهنا نستطيع ان نستخلص مما سبق أن أهم ملامح الخطاب الديني هو :
اولا : ان يكون المتكلم مجردا من أهوائه وانه مجرد ناقل لما يريده الله ورسوله وشرعه ولا يتصرف بشيء مخل بهذه الغاية التي هي نقل الحقيقة الدينية كما هي بحيث قد يتوهم بعض الخطباء ان كلامه جزء من الحقيقة التي يجب ان ياخذ بها الناس ولا يفصل بين كلامه البشري وآرائه الشخصية وبين كلام الوحي الذي هو يجب ان يصل للناس لا غير .
ثانيا: ان لا يشتهي ان يتاثر الناس بكلامه بحيث يترتب على ذلك التوجه إلى الغوغائية والحماسة والكلام الشعبوي الذي لا يستند إلى الحقائق الدينية .
ثالثا: ان يكون الخطيب مدركا للمعاني التي يتحدث بها ولأبعادها الدينية ومقاصدها الشرعية والا سيكون هذا الخطاب اجوف مقطوع البركة وقد يؤدي ذلك إلى مصادمة مقاصد الشريعة من حيث لا يعلم .
رابعا: اختيار الكلام والعبارات التي لا يثير الحنق عند المخالف لان قصده هو إيصال الحقيقة الدينية للناس واتباع الحق لا الاشخاص او الانتقام و الاعتداء على الآخرين.
خامسا: تجنب كثرة الكلام المؤدية إلى كثرة السقط والحذر من الألفاظ والكلمات الكثيرة بل يأخذ بأقرب السبل الموضحة لمراد الشارع فالمتكلم في الدين يجب أن يكون على حذر شديد والخطأ في إيصال المعلومة قد يكون كارثيا لان السامع يتوقع من الخطيب أن كل كلامه مصدره الوحي والشرع فيأخذ به ويعمل به وينقله للآخرين فيكون الخطيب من المضللين وهو لا يعلم .
واما التجديد في الخطاب الديني المنشود هو:
اولا: ان يراعي في لغته مستويات السامعين وليس مقصده اظهار فصاحته وبلاغته وقدراته اللغوية وتنميق الكلام لان اللغة وسيلة للتعبير والتخاطب وليس غاية في نفسها.
ثانيا: الابتعاد عن الخطاب العقدي المذهبي لانه ليس الخطاب الديني الشمولي المقصود وإيلاء الجانب الروحي والنفسي والعملي الأهمية الأكبر لانه محل الترقي والتغيير الإنساني المنشود .
ثالثا: يجب تمكين الخطباء الربانيين من الخطابة وهم الذين ينصحون لله ورسوله والمؤمنين وهم المتجردون عن حظوظ النفس ولا يقصدون من خطابهم جلب منفعه لهم او دفع ضر عنهم او التحيز إلى فئة او مذهب او طائفة او حزب فهؤلاء خطاباتهم جوفاء لا تؤثر في الناس ولا ينتفع منها غالبا لفقدها الاتصال الروحي مع الحق ومع الخلق.
فالسر ان خطبة الجمعة على وجه الخصوص هي عبادة محضة وهي جزء من الصلاة فكما تكون في الصلاة متجردا عن مذهبك وفئتك وطائفتك وآرائك الشخصية كذلك الخطبة فهي تعتمد على مدى اتصالك الروحي واستمدادك من الحق ووصول هذه المعاني الربانية إلى المستمعين من غير حظوظ النفس فيكون الخطيب حلقة الوصل بين الله ورسوله وبين الخلق وهذا يحتاج إلى ان يكون عند الخطيب صفاء كبير بحيث تنعكس المعاني الربانية من خلال مرآة الخطيب إلى الناس فكلما كانت مرآة النفس أنقى وأصفى كانت المعاني اوضح في نفس السامع واوقع وادعى للقبول والتأثير .