ابو هلالة يكتب: وداعا عمي ووالدي هارون أبو هلالة
ياسر ابوهلاله
21-02-2024 01:59 PM
رحل عن دنيانا عمي ووالدي الحبيب هارون أبو هلالة عمي ووالد إخوتي غير الأشقاء علي ودعاء ووفاء وبيان.
أكتب عن والدي الثاني الذي كان لنا الأب بعد رحيل الأب رحمه الله، كنا خمسة أطفال صغار أكبرنا عمار في التاسعة وأصغرنا عبدالله لم يتم عامين، بعد وفاة الوالد بعامين تزوج والدتي وانجبت منه إخوتي الأربعة غير الأشقاء وكان محبا لنا فخورا بنا كأولاده وأكثر .
كان كريما سخيا شهما شجاعا، يصدق فيه قول الشافعي
وكل عيب ، يغطيه كما قيل ، السخاء
تحمل المسؤولية مبكرا في ظروف حياة قاسية.
واجه قسوة الحياة بشجاعة وسخرية حتى آخر لحظة.
في أيامه الأخيرة عاند الأطباء ورفض البقاء في المستشفى والتوقف عن التدخين، وكان يحسن الظن بالله ويقول ان الرسول عليه الصلاة والسلام قال أنا وكافل اليتيم بالجنة، وهو كفل أخوته وأبناء أخيه أيتاما.
شخصيته غنية تعبر عن مرحلة اختفت من حياتنا، كان يروي قصة الشقاء في الطفولة بسخرية ، التحق ب " النافعة" وهو عمل في العطلة الصيفية لطلاب المدارس وغيرهم في شق الطرق. وتصفها أهزوجة شعبية
"والي يريد الشقا يا عيال يروح طريق الرشادية
عند المعلم ثلاث حاجات كزمة وكريك وطورية"
بعد رحلة الشقاء نال راتبا لثلاثة أشهر وأعطاه لوالده كي يقتطع منه جزءا للعام الدراسي، وينفق الباقي على الأسرة، لكن جدي رحمه الله أنفق المبلغ كاملا على دعوة العشيرة لوليمة غداء !
ذهب للمدرسة بدون أي مستلزمات للعام الدراسي، وصادف وجود مندوب للقوات المسلحة يشرح للطلاب مزايا التجنيد ، ما أن أتم الشرح وسأل من يرغب في التطوع حتى بادر هارون بالتطوع مع إنه لم يصل للسن القانونية!
صار ميكانيكا مميزا في الجيش يتقاضى راتبا وامتيازات عسكري ، وتحمل مسؤولية والده الذي أعياه المرض وإخوته الصغار لكنه قرر ترك العسكرية والعمل في القطاع الخاص، وهو ما يعني في العسكرية، قبل الوصول لسن التقاعد " الفرار مع الطرد"
حكم بالسجن هو ورفاقه الثلاثة في معان ، وقبل أن ينهي مدة السجن حصلت حادثة فرار سجناء السجن العسكري في الزرقاء ، وأبت شخصيته المتمردة أن يكمل ما تبقى من شهور ويخرج ، فشارك السجناء تمردهم وفرارهم ليعاد اعتقاله ومحاكمته مجددا . ويخرج بالعفو الذي أصدره الملك الحسين بمناسبة زفافه من الملكة نور .
لا تمل جلسته وهو يحدثك بسخرية عن أسوأ اللحظات وأصعب المواقف ، بما فيها الفرار من السجن والمطاردة في شوارع الزرقاء والتحقيق في المخابرات .
عندما توفي والدي عام 1977 كان وزير الداخلية سليمان عرار رحمه الله، وهو ابن معان وصديق العائلة ، وأفرج عنه مؤقتا للمشاركة في العزاء. ولا أنسى تأثره وهو يشارك في العزاء وكان والدي قد زاره قبل الوفاة بأيام. بعد أن خرج من السجن وعمل في القطاع الخاص في " الشركة الوطنية " تزوج والدتي، وكان الوالد الثاني لي .
شخصيته تختلف عن والدي، في التعليم والثقافة والشخصية .. لكنه أذاب تلك الفروق بحبه لنا، أنا وأخوتي مدينون له كما ندين لوالدي رحمه الله ووالدتي حفظها الله.
لم نعش مع والدي إلا سنوات قليلة وأكمل معنا أربعة و أربعين عاما .
كان والدي علي المثال والذاكرة وكان عمي هارون أبو علي الواقع ، تعلمت منه قيم الشجاعة والكرم والشهامة ، وعلوم الرجال، وكان يردد مقولة جدي عندما يذم شخصا تعلم ووصل أعلى المراتب لكن فاتته علوم الرجال !
محطات حياته بين طفولة قاسية وشقاء الحياة الصعبة في معان ثم القوات المسلحة وبعدها السجن، ثم العمل ميكانيكيا وبعدها الانتقال إلى جبل اللويبدة عندما اشترى سوبرماركت المهد .
نوادره لا تنتهي في جبل اللويبدة ، تأتي أم وتطلب حفاظات " موف" لطفلها، وهو لا يعرف الموف ويعتذر منها فتقول له إنه أمامك ! وظل يعتقد إن الميونيز نوعا من الجبنة!
صادق الجميع في الحي المنوع، وكان جاره الليبرالي عبدالله الحسنات رئيس تحرير الجوردان تايمز رحمه الله يحاول إقناعه بأن الأجنبيات اللواتي يزرنه صديقات وزميلات عمل بعيدا عن سوء ظنونه. وفي المقابل كان مركز دراسات الأمة التابع للإخوان مقابله ومن فيه أصدقا ؤه، والخوري نبيل حداد صديقه ..
أحبه أولادي كثيرا ، وكانوا يتشوقون لزيارته ومجالسته من الصغيرة هديل إلى رؤيا وعلي وآية ورند ، وزوجتي كانت تعتبره بمقام والدها. كان لديه قدرة غير عادية على كسب الجميع من الصغير إلى الكبير ، عبر الكرم وخفة الروح والصدق .
غادر معان لكنها لم تغادره وظل وفيا لتقاليدها، في بيتنا في جبل الحسين وفي محله في " سوبرماركت المهد " في جبل اللويبدة. كان بيتنا بلا أبواب بيت شعر لا يصد أحدا، حتى عندما كان أخي أسامة في الثانوية العامة وحصلت مناسبة تكاثر فيها الضيوف من معان ، لم يردهم وطلبت والدتي من أسامة أن يذهب لبيت جدتي للدراسة ، وببركة الضيوف حصل على الترتيب السابع في المملكة وتخرج طببا، وأصر أبو علي على الاحتفال به بزخات الكلاشنكوف التي أرعبت الجيران وأقلقت الأمن وكانت عمان تستضيف وقتها قمة عمان الاقتصادية بعد معاهدة السلام والتي شاركت فيها وفود أميركية وإسرائيلية وغربية ، ولك أن تتخيل وقتها بقية القصة لولا تدخل الوسطاء ! المهم كان يرى أن أول طبيب في العائلة يستحق احتفالا ومخاطرة كهذه !
عندما درست ابنتي آية الجامعة في عمان كان يعاملها كما بناته وكذلك باقي الأولاد . من يشاهد قسوته أحيانا وصلابته يستغرب كم تخفيان محبة وعطفا.
عندما أخبرته بخطبة حفيدته رند آخر الشهر، تحمس وقال أنها المرة الأولى التي سيسافر بها وجدد جواز سفره المنتهي من 1996 ولكن قدر الله غالب، وبدلا من أن يشاركنا أفراحنا شاركناه الحزن على رحيله.
عناده وكبرياءه عجّلا في رحيله، غادر المستشفى ولم يقبل أن يبقى عالة على الأطباء رغم حراجة حالته، خذلته الرئة التي أنهكها التدخين، وحقق أمنيته ان يرحل سريعا ولا يتعب أحدا معه .
تعب كثيرا ولم يكن يريح نفسه ، لم يتقاعد وظل لآخر يوم يداوم في المحل ، يحضر الخضار من مخيم الحسين ومن تجار الجملة ، ويسجل الديون ويتحدث مع الجميع ، يمازح ويوبخ ، كان بمثابة أب للحارة، يُهاب ويُحب.
عزاؤنا ما تركت من محبة لك وغصة على فراقك وأنت عند عند رب رحيم كريم، عساه يجمعك بالأحبة من إخوتك علي ومحمد ومنى وخليل ، ويلحقنا بالصالحين
أسأل الله أن يغفر لك ، ويتجاوز عن سيئاتك ويعلي درجتك وان يكون كظنك به.