الحرب لا تعرف إلا الانحياز الأعمى. المشاعر تسيطر على العقل وتردعه حتى عن مجرد التعاطف الأدنى مع ضحايا الخصوم (الأعداء). يتساءل أحدنا: ما ذنب المرأة الإسرائيليّة التي تقود سيارتها أن يأتي مَن يطعنها بسكّين قاتلة؟ لكنّ الوجدان الجريح للضحيّة يردّ على الفور: وما ذنب أطفال غزة ونسائها؟
الحرب تجرّد الكائن من إحساسه، تعيد برمجته ليكون قاتلاً في اللحظة ذاتها التي تسيل فيها دماؤه. أن لا تتعاطف يعني أن تبني متراساً خفيّاً بينك وبين الشعور العميق بالألم، أن تتجاوزه، وتهزأ به، وتلعنه في سرّك في علانيّتك. وفي هذه العمليّة ينمو، شيئاً فشيئاً ويرتفع، سورُ الكراهية. بالكراهية يحيا الضحايا. بالحقد تلتئم جراحاتهم. بالغضب الهادر الذي يكزّ على الأسنان والأعصاب يبرأ الذي رأى أهله يُقتلون. لا شيء يُشفي الغليل إلا الانتقام الفتّاك الذي لا يميّز بين طفلة وبين شيخ، ولا بين مدنيّ وبين عسكريّ، ولا بين امرأة تقود سيّارتها، وبين جنديّ يُشهر الموت في وجه حياتك. الكلّ مستهدف، لأنّ حرائق القلب لا تكفّ عن طلب المزيد من الأجساد لتصهرهم في أتونها. القلب هنا يتحوّل إلى جهنم إن سُئلت هل امتلأت، تردّ: هل مِن مزيد؟
الحروب لا تنتهي بمجرد إعلان هدنة، أو اتفاق لوقف النار، مؤقتاً كان أم دائماً. بعض الجروح لا يُمحى، ويظل كالندبة التي لا تزول مع زوال الجسد، بل يتوارثها الأحفاد كالوشم، أو كالتميمة، أو كالخرزة التي تظلّ معلّقة على الجدار أينما حلّ المرء/ الضحيّة، أو ارتحل.
واستطراداً، فإنّ تلك الندبة التي تثير عواصف الآلام المديدة التي أبادت "الجسد الوطنيّ"، لا يقتصر تذكّرها أو بقاؤها على اللاوعي الفرديّ، بل تصبح جزءاً من نسيج اللاوعي الجمعيّ الذي طوّره كارل يونغ، بعد انشقاقه عن أستاذه فرويد، وتحدّث فيه عن الخبرة البشريّة الجماعيّة التي تحفر مأساتها على جدار اللاوعي، وتظلّ منقوشة ومُستدعاة طوال قرون.
واعتماداً على مقاربات يونغ، وسواه من محلّلي علم النفس، يمكن لنا فهم العقيدة الكفاحيّة المتوارثة لدى المقاوم الفلسطينيّ الذي يزخر أو يكتظّ لاوعيه بالخبرات المشتركة التي صاغها أجداده طوال عقود طويلة تمتدّ على زمن الصراع مع الصهيونيّة والاحتلال البريطانيّ، وحركات التمرّد على كل من حاول التطاول على الوجود الفلسطينيّ. ولعل دراسة نفسيّة أنثروبولوجيّة ستكشف الجذور المؤسِّسة لفكرة الصلابة القتاليّة ليس فقط لدى المقاوم، بل ولدى سائر الناس الذين ينتسبون إلى هذه الثقافة، ويصدرون عن هذه الخبرة المتنوعة في الماضي والحاضر، والتي تقطع الصلة العضوية مع المتوقَّع.
وقبل أن يتطوّر السلاح في يد المقاوم الفلسطينيّ، الذي أضحى الآن يصنع الذخائر الدقيقة والصواريخ والطائرات المسيّرة، ابتكر الوعي الفلسطينيّ ثورة لم يسبقه إليها أيّ شعب آخر تمثّلت في "انتفاضة أطفال الحجارة" التي اندلعت في الثامن من ديسمبر 1987، عندما دهست حافلة عسكريّة إسرائيليّة سيّارة عمّال فلسطينيّين، ما أدّى إلى استشهاد 4 فلسطينيّين وجرح سبعة آخرين من سكّان مخيم جباليا في قطاع غزة المحتّل، الذي أشعل في اليوم التالي ثورة امتدّت للضفة الغربيّة والجليل والمثلّث والنقب، واستمرّت سنوات، استُشهد خلالها زهاء 1500 فلسطيني.
الانتفاضة تميّزت باستخدام الحجارة وما سمّي بـ"كوكتيل المولوتوف"، والسكاكين والمسامير ضد الحافلات الإسرائيليّة، وكذلك المصيدة المتمثّلة في الحُفر التي تُنشأ في الشوارع، وتُغطى القش والقُصّيب لاصطياد آليّات العدو. كما أشهرت الانتفاضة الأولى سلاح العصيان المدنيّ الذي شاركت فيه فئات المجتمع الفلسطينيّ في كل مكان، ما شلّ إسرائيل، واستحقّ تأييد قطاعات واسعة في العالم لهذا السلوك الثوريّ الإبداعيّ، الذي خاطبه نزار قباني في قصيدته الشهيرة "ثلاثيّة أطفال الحجارة": "بهروا الدنيا/ وما في يدهم إلا الحجارة/ وأضاؤوا كالقناديل/ وجاؤوا كالبشارة/ قاوَموا/ وانفجَروا/ واستُشهدوا/ وبقينا دبباً قطبيّة/ صُفّحت أجسادها ضد الحرارة".
هذا، إذاً، يقودنا إلى استنتاج مفاده أنّ المقاومة ضد الغازي والمحتلّ هي جزء من تركيبة النفسيّة الفلسطينيّة. ولعلها ليست مصادفة أن يُستحضَر اسم الشهيد عز الدين القسّام في اللحظة الراهنة التي تعيشها غزّة، على أنّ الزمان المقبل سيحفل بأسماء صنّاع الزمن الانتصاريّ الحالي، ما يؤول إلى سلسلة متواصلة من الخبرات المختزنة في لاوعي الجماعة البشريّة التي تستقبل الموت الآن، لا لأنها لا تعشق الحياة، بل لأنّ مشاعرها (إن جاز التعبير) قد توقفّت أو تعطّلت أو تجمّدت إراديّاً عن إدراك هول المأساة التي لا يمكن للوعي المباشر أن يؤطّرها من دون أن يتمكّن من إزالة الأتربة عن جسده المسجّى تحت الركام.
اللاوعي الجماعي يرفد الذاكرة الراهنة للمقاومة الفلسطينية التي تبدو كقلادة لمع ضوؤها المحسوس والمباشر في "ثورة البراق" 1929 في ظلال مدينة القدس، ذات الرمزيّة الروحيّة العاصفة في الوجدان الفلسطينيّ، وسبق ذلك الضوء مسيرةٌ من الكمون النضاليّ، ظلت تسري في عروق التاريخ، وتجلّت في الرموز والأيقونات والأغاني والأشعار والأثواب والطعام والشراب، وسائر أنماط العيش والموت: هل ثمة شعبٌ في الدنيا يزفّ شهداءه بالزغاريد؟
اللاوعي الجماعي للذاكرة الفلسطينيّة انتقل، بفضل العدوى الإيجابيّة، ليصيب ويرفد الثورات في العالم، فغدت فلسطين ضمير الأحرار وبوصلتهم، ونشيد أنشادهم، وعصيانهم على الكسر والتذويب والاقتلاع.
وفي اللحظة التي تستعيد فيه المشاعر عملها (كيلا نقول عافيتها)، فإنّ طوفاناً آخر سيكون أشدّ ضراوة، لأنه يمزّق تصوّرات المستقبل عن أية مصالحة ممكنة مع المعتدي، وربما مع العالم، ومع الله!
ويستتبع ذلك، مباشرة أو بالتدريج، تعميقُ رغبات الانتقام وتغذيتها وتوريثها من دون غرق في المثاليّات التي تنضح بـ"نغفر ولا ننسى". "لن نغفر ولن ننسى"، يقول لسان الضحايا، وستقول أفعالهم التي ستزرع الأحقاد في القوارير، كما تزرع النعناع، والياسمين؛ كي يتضوّع عطر الشرّ، ويعبق الأنوف والفضاءات.
بالخبرة الجماعيّة المشتركة التي كان أحد فصولها محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير، يتأثّث وجدان المقاومة المتراكم، ويتعالى، ويبدع في اجتراح المعجزات. وبالخبرة ذاتها التي عمّدتها دماء الشهداء في دير ياسين والطنطورة، يتأسّس بنيان شاهق لا آخر لمداه من القهر المولِّد للانفجار، والذي سيرسل شظايا حقده في كلّ الاتجاهات كشيفرات. كلما عبّر هذا الخزّان "النووي" من الحقد عن نفسه أكثر، تشافت الروح الجماعيّة أسرع، لكنه الشفاء الذي لسان حاله يقول "وداوني بالتي كانت هي الداء"!
هذا ما تفعله الحروب، لا سيما إن كانت قائمة على حقد لاهوتيّ توراتيّ متأصّل في أيديولوجيا ترى في اقتلاع الآخر جزءاً من نداءات الرب، وتلبية لمشيئته، وصلاة مستغرِقة في معبده.
هل تهزم الأحقادُ الحقَّ المزيّف؟ هل تهدم الكراهية الهيكل؟ وهل تبدأ غزوات اللاوعي الجماعيّ من حيث صمتت دبّابات الأرض وصواريخ السماء؟ التاريخ المفخّخ الذي سيكتبه الضحايا سيظلّ عابقاً بالدخان والحرائق، حيث لا عدالة (ولا بطيخ أحمر)!!