ما يجري في غزّة يقطّع شغاف القلب. لقد عاش جيلنا حروباً كثيرة، وشهد على مآسٍ لا حصر لها، لكنّ المقتلة التي تجري وقائعها في غزّة لا تشبه أية جريمة وقعت أو ستقع. التوحّش وصل مناطق اخترقت الخيال البشريّ. كأنّ روبوتاً همجيّاً صمّم كل هذا القتل، من دون أي إحساس ولا تأنيب ضمير.
الكلام، مهما شحذ بلاغته، سيبقى نقطة في محيط الألم الذي يعصف بقطاع غزّة. والمأساة مفتوحة وتكتب فصولها الدامية بينما نخطّ هذه الحروف في هذه الآونة التي تتعلّق بخصلة من خيط الأمل النحيل.
ولست أتصوّر ضميراً، يخفق ولو بشيء من التعاطف، لم يذرف دمعة على غزّة التي حرّكت مأساتها الجبال الراسيات، وأطلعت الناس إلى الشوارع والميادين في سائر بقاع الأرض.
بل إنّ الأمر الأشدّ وقعاً على النفس أنّ المأساة المستمرة أغرقت الروح في عتمة سحيقة، بحيث غدا الفرح نائياً، والعيش السليم أقربَ إلى الرفاهية التي لا تصدر إلا عن ذوي القلوب المريضة. غزّة قلبت رأس العالم، وغيّرت أولوياته.
بيْد أنّ المأساة التي تدخل اليوم (السبت) يومها الرابع والثلاثين بعد المائة، تنذر بما هو أشدّ ويلاً مع التهديدات باقتحام رفح، وهي تهديدات حقيقيّة في الواقع، في حين يرى بعض المحلّلين أنها "تكتيكيّة" لتحسين شروط التفاوض بين الاحتلال الإسرائيليّ وبين المقاومة الفلسطينيّة. لكنّ الأيام الماضية علّمتنا أنّ "التكتيك" الإسرائيليّ هو في جوهره "استراتيجيّة" هدفها الإبادة، واستئصال الشعب الفلسطينيّ واقتلاعه من المكان، في مسعى خائب لانتزاعه من الزمان.
الفرح، في غضون هذه المأساة، شحيح وضوؤه شاحب. لكنّ ذلك لا يعني ألا يُترك الناس لممارسة الحدّ الأدنى من حياتهم، فالفرح لا يتناقض مع إرادة العيش التي تجسّدها المقاومة. فالأخيرة فعل نضاليّ شجاع من أجل تحسين جودة الحياة وعيشها بكرامة وإباء.
الذي يفرح ليس خائناً للضمير الوطنيّ والإنسانيّ، والذين احتفلوا بإنجازات المنتخب الوطنيّ الأردنيّ لكرة القدم عاشوا لحظة استثنائيّة مستحقّة. دع الناس يمارسون طقوسهم، فنحن لسنا أوصياء على إرادتهم، ولسنا أيضاً في محاكم تفتيش عن الأفئدة وما يدور في جنباتها، ولا يتعيّن لأحد أن يمارس الرقابة الاجتماعيّة والأخلاقيّة على خيارات البشر، لأنّ ذلك يسيء، في المقام الأوّل، إلى فكرة الكفاح والتحرّر والانعتاق من الظلم والتبعيّة.
ماذا يفيد غزّة إن أنا أقفلت الباب على نفسي، وندبت مشاعري للعزاء والبكاء والألم الذي يفرغ الروح من العزيمة، ويقتل الحياة، ويضرم في الأمل الحرائق؟..
الحياة ستسير إن حزنتُ أو فرحتُ. ولا بدّ لها أن تمضي وَفق مشيئة البشر الذين من حقّهم أن يسلكوا الدروب التي تلبّي تطلعاتهم. وليس معنى ذلك خيانة المقاومة، أو نسيان الصرخات المنطلقة من قطاع غزّة والتي تصهر الصخور، وتخرق عنان السماء.
الناس، بطبيعتها، متضامنة مع الآلام الفلسطينيّة. وكلّ الإحصائيّات الواردة بخصوص مبيعات الهدايا والورود للمحتفلين والمحتفلات بـ"الفالنتاين" الأخير، على سبيل المثال، تشير إلى تراجع المبيعات على المستوى العربيّ. هذا يعني أنّ الناس ليست في أحسن أحوالها. لكنّ المحتفلين بعيد الحب ليسوا خونة، أو مارقين، أو خارجين عن الإجماع الوطنيّ.
في نهاية العام الماضي احتفلنا بخطوبة ابني "عودة" في أجواء متقشّفة، وبلا أغانٍ رنّانة، أو رقص صاخب، من دون أن يُملي أحد على أحد شيئاً. كان ثمة إجماع مضمَر، وبلا تنسيق، على أن يكون الاحتفال بسيطاً ومحدوداً، وفي منزل، وبعدد قليل جدّاً جدّاً من الأهل. قرأنا الفاتحة على نيّة العهد، وترحّمنا على أرواح الشهداء، ودعونا لغزّة بالمجد والعزّة.