من التنديد إلى الفعل "دعوة العالم لوقف العنف في غزة"
د. فراس الجحاوشة
14-02-2024 02:34 PM
في الأشهر الأربعة الماضية، شهدت غزة تصاعداً لافتاً في عمليات العنف والقتل، حيث تقول التقارير أن عدد الضحايا من المدنيين العزل في غزة على يد القوات الإسرائيلية قد فاق عدد الضحايا في النزاع الروسي-الأوكراني خلال العامين الماضيين. تُضاف إلى هذه الإحصائية القاتمة تقارير عن عمليات تهجير قسري واسعة النطاق، حالات تجويع، دمار مادي وروحي هائل، بالإضافة إلى الاعتداءات على المدارس، المستشفيات، ودور العبادة، وهو ما يُعتبر تجاوزاً للحدود التي لم يجرؤ على تخطيها أي جيش في العالم خلال العصر الحديث.
المقارنات المروعة لا تتوقف عند هذا الحد، إذ يذهب البعض إلى القول بأن الأثر الهدام للقنابل الإسرائيلية على غزة قد يُقارن أو حتى يتجاوز تأثير القصف الأمريكي على هيروشيما وناغازاكي خلال الحرب العالمية الثانية. رغم ذلك، يبدو أن رد الفعل الدولي قد اقتصر على التنديد والإدانة ودعوات متكررة لإنهاء العنف وتخفيف وتيرته، دون تحرك فعلي ينهي هذه الأزمة.
بينما كان الغضب والحزن العالميان على أشدهما في الأسابيع الأولى من النزاع، يبدو أن هناك تراجعاً ملحوظاً في حدة هذه المشاعر مع مرور الوقت. هذا التحول يعكس ربما تعود العالم على صور الحرب المتكررة، وهو ما يؤكد المثل القائل "الألفة تُذهِب الدهشة". تُظهر هذه الديناميكية أحد الرهانات الرئيسية للمؤسسة السياسية والعسكرية في إسرائيل، وهو أن العالم سيتجاوز مرحلة الغضب الأولية تحت ضغط الزمن وتحت حماية المظلة الأمريكية والغربية.
التنديدات والإدانات تتوالى من كافة أرجاء العالم، من الرئيس الأمريكي جو بايدن، إلى الزعماء الأوروبيين، والقادة العرب، وحتى الرأي العام الغربي والعربي. ومع ذلك، يبدو أن هذه التنديدات لم تتجاوز كونها كلمات في تغريدات وبيانات، مما يعكس اعتقادًا متزايدًا عبر العالم بأن التنديد عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو في البيانات الصحفية قد يكون كافيًا للوفاء بالواجب الأخلاقي، دون الحاجة إلى اتخاذ خطوات فعلية أو ملموسة لمعالجة الجذور العميقة للنزاع أو للتخفيف من معاناة المدنيين الأبرياء.
هذا الوضع يسلط الضوء على التحديات الكبيرة التي تواجهها المجتمعات الدولية في التعامل مع النزاعات المعقدة والطويلة الأمد مثل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. فالمسافة بين الكلمات والأفعال تبدو واسعة، حيث تتطلب الحلول الدائمة والعادلة لمثل هذه الأزمات مزيدًا من الجهد والتضحية والإرادة السياسية الحقيقية، وهي عناصر غالبًا ما تغيب عن المعادلة الحالية.
إن الحاجة ماسة إلى تجديد النقاش العام والدبلوماسي حول آليات فعالة للتدخل الدولي يمكن أن تضمن الحماية للمدنيين وتوفر الأساس لحل النزاعات بطريقة عادلة ودائمة. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: متى يتحول الغضب والتنديد إلى إجراءات ملموسة تُنهي دوامة العنف وتؤسس لسلام عادل يضمن الحقوق والأمان لجميع الأطراف المتضررة؟
في غياب مثل هذا التحول، يبقى المدنيون في غزة وفي مناطق النزاع الأخرى ضحايا للحسابات السياسية والعسكرية التي تتجاهل أساسًا إنسانيتهم وحقهم في الحياة والأمان. إن الوقت قد حان للمجتمع الدولي ليتخذ خطوات جادة وملموسة تتجاوز البيانات الرنانة والتنديدات العابرة، نحو إيجاد حلول عملية تحترم القانون الدولي وتحمي حقوق الإنسان، وتضع حدًا للمعاناة التي طال أمدها.
في ظل الحرب القائمة التي تشنها إسرائيل على غزة، والتي وصفت بأنها من أشد الحروب وحشية، تتجلى معايير وشروط عديدة تستدعي تحركًا دوليًا جادًا لوضع حد للعنف المتصاعد. الحرب التي تخللتها أعمال قتل وتهجير واسعة النطاق بالإضافة إلى تدمير الممتلكات، قد وضعت المجتمع الدولي أمام مسؤولية غير مسبوقة للانتقال من مرحلة الإدانات اللفظية إلى اتخاذ إجراءات عملية وفعالة.
من الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى القادة العرب والعالميين، وحتى الأفراد العاديين الذين يتشاركون استياءهم عبر منصات التواصل الاجتماعي، توحدت الأصوات في التنديد بالأعمال التي ترتكبها إسرائيل. ومع ذلك، يبدو أن هذه الإدانات لم تكن كافية لدفع إسرائيل إلى التوقف عن أفعالها، ما يشير إلى وجود حاجة ملحة لاستراتيجيات جديدة وأكثر فعالية للردع.
الصمت الدولي، أو بالأحرى الشلل الذي أصاب العالم إزاء هذه الأزمة، يرجع إلى عدة عوامل، من بينها الدور البارز الذي تلعبه الولايات المتحدة في دعم إسرائيل. العام الانتخابي في أمريكا، بالإضافة إلى التداخلات السياسية والاقتصادية بين أمريكا والقوى الأوروبية، يعقد الموقف بشكل يصعب معه مخالفة الخط الأمريكي. وكذلك الحال بالنسبة للقادة العرب، الذين يجدون أنفسهم في موقف يصعب معه اتخاذ مواقف مغايرة دون التعرض لتبعات محتملة.
رغم ذلك، هناك بصيص أمل يلوح في الأفق، يتمثل في المواقف التي تبنتها بعض دول الجنوب، مثل جنوب إفريقيا وعدد من دول آسيا وأمريكا اللاتينية. هذه الدول قد تكون مفتاح التغيير نحو تبني إجراءات أكثر فاعلية لمواجهة الأزمة الحالية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بالكلمة العليا في الشؤون الدولية، إلا أن التحركات الجديدة من هذه التكتلات قد توفر الزخم اللازم لدفع العالم نحو مربع التنديد الفارغ إلى إجراءات ملموسة وعملية.
التحدي الرئيسي الذي يواجه المجتمع الدولي الآن هو تحويل هذه الدعوات والتنديدات إلى خطوات فعالة تضغط على إسرائيل لوقف انتهاكاتها. يتطلب هذا تعاونًا دوليًا واسع النطاق واستعدادًا لتجاوز الاعتبارات السياسية الضيقة لصالح حقوق الإنسان والعدالة.
الدور الذي يمكن أن تلعبه التكتلات غير المتجانسة من دول الجنوب يعتبر حاسمًا في هذا السياق. عن طريق تشكيل جبهة موحدة وتقديم قضية غزة إلى المنتديات الدولية مثل محكمة العدل الدولية، يمكن تسليط الضوء على الأزمة بطريقة تجبر القوى الكبرى على إعادة تقييم مواقفها ودعمها لإسرائيل.
لكن لتحقيق تغيير ملموس، يجب أن يكون هناك استعداد للتحرك بشكل مستقل عن السياسات الأمريكية والأوروبية، وهو ما يتطلب شجاعة سياسية ورؤية طويلة الأمد. العالم بحاجة إلى إعادة النظر في كيفية تعامله مع النزاعات والتركيز على الحلول التي تضمن العدالة والسلام الدائمين بدلاً من الاستجابات الرمزية التي لا تتجاوز كونها تصريحات للصحافة.
في النهاية، يظل السؤال الملح: هل يمكن للمجتمع الدولي أن يتجاوز عقبات السياسة الخارجية والمصالح القومية الضيقة للتصدي بجدية للأزمة في غزة؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد مسار العدالة والسلام في المنطقة للأجيال القادمة. إن الوقت قد حان للعمل بشكل جماعي ومسؤول لإنهاء دوامة العنف والمعاناة التي طال أمدها والتي تحتاج إلى جهود متضافرة لوقفها.