الاحتواء التركي المفرد لبعض سياسات الفوضى الخلاقة
حسين غازي خير
19-03-2011 06:30 PM
منذ قيام دول النظام العربي سابقا المساهمة باخراج الامبراطورية العثمانية من تاريخ وجغرافية اقليم الشرق الاوسط العربي ان جاز التعبير عبر حلفائه الاوروبيون ابان الحرب العالمية الاولى , فلا تزال النظرية العربية المختزلة عن النظام التركي الماثلة في ذهن وعقلية النظام العربي تعكس دور الامبراطورية العثمانية السلبي لاربعة قرون من الزمن بشكل عام, والجمهورية التركية التي اسسها مصطفى كمال اتاتورك على انقاض الخلافة العثمانية خلفا للسلطان عبدالحميد بشكل خاص وما تبعها من ممارسات الاتحاديون الاستبدادية من خلال حزب الاتحاد والترقي وسياسة التتريك على يد اتاتورك ضد النظام العربي .
المفهوم السائد حاليا لدى بعض دول النظام العربي هو عودة الجمهورية التركية من اغترابها, بل وصعود دورها المفاجئ لاعادة شغر الحيز الجغرافي الخاص بها واستعادة الدور التاريخي لها وربما التمهيد للمد التركي الجديد تحت اي مسمى كان بغفلة عن النظام العربي ودوله ، كون النظام العربي تعامل مع الجمهورية التركية من خلال مفهوم ثابت وليس كمتغير في العلاقات الدولية ، الامر الذي جاء كصدمة لبعض دول النظام العربي وكنعمة لبعض دوله الاخرى ، مما كرس سياسة الامر الواقع ورد الفعل والتشكيك في هذا الدور ودوافعه .
ما تقدم يدعو الى الالتفات والتقييم المسؤول الى بعض عوامل التفاعل التحالفية المحددة والمحتملة لاقليم الشرق الاوسط ودوله كتركيا ان جاز التعبير, كون استعراضها كاملة لا مجال لذكره الآن ، وكذلك استعراض خصائصه المرتبطة بالتحالفات خاصة الاقليمية والدولية منها . يتمثل مجمل هذه العوامل في اقليم الشرق الاوسط من خلال أ)العوامل – المتغيرات غير المعتمدة (المستقلة ) المتمثلة في 1)الهيكلة السياسية الدولية 2)الهياكل السياسية الوطنية 3)الحركات الايدولوجية عبر الاقليمية كالاسلام والقومية العربية 4)سياسات القوى العظمى والقوى الكبرى تجاه اقليم الشرق الاوسط ، وكذلك استكمال التقييم من خلال ب) المتغيرات المعتمدة (غير المستقلة ) المتمثلة في 1) قرارات الحرب والسلام 2) الاحلاف وانماط التحالف 3)مشاريع الاتحاد والوحدة 4) الانماط الاقليمية لاقامة الدولة 5) الدبلوماسية 6) التدخل العسكري المعلن وغير المعلن والنزاع المسلح .
يعكس الدور التركي الجديد وضعا متغيرا في بيئتين متغيرتين غاية في الشدة والتعقيد حتى بالنسبة لتركيا ذاتها ، فتركيا تقع جغرافيا في اقليمين مختلفين هما اقليم الشرق الاوسط والاقليم الاوروبي ، وبتغير النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية بشكل خاص وولادة نظام اوروبي فوضوي قائم على انقاض العديد من الدول الاوروبية ، فقد واكبت تركيا العلمانية – العسكرية النهج النظري والعملي الاوروبي الغربي التكاملي الخاص بوضع اوروبا الجديد ، والمتمثل آنذاك في (نظريتي الواقعية الجديدة والواقعية الجديدة الهيكلية ) اللتان اسستا على النظرية (الواقعية الكلاسيكية ) لاعتماد هذا المنظور على ضرورة تنظيم اقليم اوروبا سياسيا وامنيا واقتصاديا لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بسبب ولادة النظام الاوروبي الاقليمي الفوضوي المذكور ، وتمثلت محاولات تنظيم اقليم اوروبا من خلال السيطرة على فوضى النظام الاوروبي عبر اقامة التحالفات والاحلاف العسكرية لتحقيق توازن وميزان قوى ، وكذلك اقامة التحالفات والاحلاف الاقتصادية ممثلة بالاتحاد الاوروبي (السوق الاوروبية المشتركة سابقا) وعديد منظماتها ، لاقامة مجموعة وكتلة اقتصادية منافسة لنظيراتها في العالم ، الامر الذي اخرج النظام الاوروبي الجديد حيز الوجود ، وبالتوازي ، نجحت تركيا فيما بعد وخلال عقود من الزمن في نظام تحالفاتها العسكرية – العلمانية في الانضمام الى حلف شمال الطلسي من خلال جيشها الذي اعتبر ثاني اكبر جيش في الحلف, ومواكبة تركيا لبعض عناصر التكامل الاقتصادي المتواضع مع دول الاتحاد الاوروبي .
اذن ، وبالعودة الى النظرية (الاوروبية الواقعية الكلاسيكية ) ، فان اساس النظام الاوروبي قائم على كينونته المتمثلة بوحدة عمل واحدة مجتمعة وليس كوحدات منفردة ، اي ان النظام الاوروبي يتحرك وفق مصالحه كنظام واحد او لا يتحرك ، مع الخذ بعين الاعتبار ان بعض دوله كفرنسا والمانيا تتمتعان بحرية حركة اكبر ، ولكون النظام غير قائم تحالفيا على سياسات دوله المنفردة بل الجمعية ، فقد اهمل النظام الخلافات الايدولوجية المنفردة كالايدولوجيات القومية المحلية او الديانات المختلفة او الاعراف المتباينة ، واهمل هياكل دوله وحكوماته الديمقراطية بتفاوت كوحدات منفصلة ، واعتمد نظام هيكلة الجمعي كاتحاد اوروبي من خلال صهر ايدولوجياته القومية والدينية والعرقية في بوتقة واحدة هي الاتحاد الاوروبي العلماني الديمقراطي بقوميته الاوروبية وديانته المسيحية الجمعاء ، الامر الذي ادى الى فشل تركيا في نظام تحالفها الاقتصادي لجهة الانضمام الى الاتحاد الاوروبي لاختلاف مكوناتها الاساسية مع مكونات دول الاتحاد الاوروبي المذكورة ، وحسب تورغوت اوزال " فان المجموعة الاوروبية هي ناد مسيحي بامتياز " .
عكس دور تركيا ابان الحرب العالمية الثانية بسبب خروجها من اقليم الشرق الاوسط العربي سياسة التأقلم مع التغير في النظام الدولي الجديد خاصة النظام الاوروبي- الغربي من خلال انضمامها الى حلف شمال الاطلسي و محاولات انضمامها الى الاتحاد الاوروبي و التكامل معه ، و توطيد تحالفاتها الاستراتيجية الوطيدة مع كل من الولايات المتحدة وحليفتها اسرائيل .
بعد ان اتضح لتركيا استحالة قبول عضويتها الكاملة في الاتحاد الاوروبي خاصة بعد الازمات الاقتصادية الدولية التي عصفت بدول العالم و تأثر العديد من اقتصاديات الدول الغربية بذلك ، فقد قامت تركيا و كردة فعل منطقية و كخطوة استراتيجية محسوبة بمحاولة موازنة مصالحها من خلال تعزيز حضورها في اقليم الشرق الاوسط بشكل لافت و مميز, لأن تكاليف تحالفاتها المنفعية ضمن النظام الدولي الجديد متعدد الاقطاب اصبحت غير متوازنة او حتى تتجاوز منفعتها مع التحالف الغربي القديم "اوروبا القديمة" حسب الرئيس جورج بوش الأب، و اصبحت حالة تحالفاتها غير المتوازنة شرقا و غربا عرضة لمزيد من العزلة خاصة بعد التغير السلبي الطارد لها من الاقليم الاوروبي الجزئي مع وقف التنفيذ، بل اصبح اقليمها الشرق اوسطي الذي تقع فيه عرضة للزعزعة وعدم الاستقرار و التقسيم بسبب سياسة اوروبا عامة و الولايات المتحدة خاصة بعد نهاية الحرب الباردة و قيام نظام القطب الواحد . زاد الامر تعقيدا تقاطع الدور الاستعماري الاوروبي التقليدي و الدور الامبراطوري الامريكي المكامل للدور الاستعماري الاوروبي , حيث مثل خط التكامل المذكورانشاء شرق اوسط جديد قائم على نظام الفوضى الخلاقة على انقاض فشل مشروع اسرائيل والذي تبناه سابقا منظر السياسة الاسرائيلية شمعون بيريز كما ورد في كتابه الشرق الاوسط الجديد , واضحت سياسة غض الطرف التركية عن السياسات الغربية غير الفعالة وغير المتوازنة بالنسبة لتركيا عوامل سلبية، و تعمل على تهديد مصالحها الاستراتيجية الحيوية وامنها القومي حيث عكست بعض سياسات التغيير التركية الرسمية على سبيل المثال لا الحصر مواقفها الجديدة من كل من ايران و العراق و اسرائيل في اقليم الشرق الاوسط فيما يتعلق بالموقف من البرنامج النووي الايراني و المسألة الكردية و القضية الفلسطينية تباعاً , اضافة الى موقف تركيا المعارض لتدخل الحلف الاطلسي في اقليم الشرق الاوسط ودوله كليبيا.
يجسد دور تركيا الجديد نظرية ( اللجوء الجزئي او الهروب التقليدي للدول ) نحو الوسط و يعتبر الخطوة الاولى باتجاه اللجوء من الاقليم الاوروبي الى الوسط حتى لو كان لجوءاً قسريا مع وقف التنفيذ الطوعي والجزئي من جانب تركيا، ويشابه لجوء الصين في بداية السبعينات من القرن الماضي من المعسكر الشرقي الى الوسط ، و ليس الى المعسكر الغربي ابان زيارة الرئيس الامريكي ريتشارد نيكسون الى الصين و الذي لم يؤثر على ميزان القوى النووي الاستراتيجي بين الشرق و الغرب، كما ولا يشابه اللجوء التركي اللجوء المصري في نهاية السبعينات من القرن الماضي من المعسكر الشرقي الى المعسكر الغربي بعد زيارة الرئيس السادات للقدس لانه كان لجوءا كاملا عمل على خلخلة ميزان القوى . يتوجب الالتفات بجدية الى لجوء تركيا الى الوسط و ليس الى اقليم الشرق الاوسط لنصرة دوله ضد الغرب او زعزعة امنها وسيادتها من خلال الفراغ الناتج عن ذلك، بل خطوة تتبع حالة التوازن المذكورة حسب عملية المكسب والخسارة المتاحة لتركيا .
يحمل اللجوء التركي في طياته اربعة اتجاهات مستقبلية محتملة لتركيا تتصل بالمواقف التالية (أ) موقف المعسكر الغربي المتمثل في (1) احتمال استمالة ومكافأة تركيا مجددا من خلال منحها نوع اشمل من العضوية في الاتحاد الاوروبي او تخفيف العبء عنها الناتج عن سياسات الحلف الاطلسي السلبية كالدور الذي انيط بها من خلال الحربين ضد العراق (2) عقاب تركيا من خلال خفض وتجميد التعامل السياسي و الاقتصادي و العسكري معها (3) اعادة تقييم تركيا كدولة غير ديمقراطية بالمعيار الغربي الكامل من حين لاخر وكدولة ذات نزعات توسعية اقليمية جديدة في اقليم الشرق الاوسط ، و اعادة تقييم فكرها الايدولوجي كفكر ايدولوجي اسلامي قد ينحو منحى التطرف ضد المصالح الغربية, اضافة الى ترهيب بعض دول النظام العربي من البعث التركي الجديد، او التذكير باحياء الاتهام لممارسات تركيا المزعومة ضد الارمن او الاكراد او اليونان القبارصة. (ب) موقف بعض دول النظام العربي المتمثل في احتمال استمالة تركيا لصالحها من خلال تقديم بعض انواع اشكال الدعم المتاحة لها و مكافأتها على خطوة لجوءها و هروبها من المعسكر الغربي و اقامة الاحلاف و التحالفات معها . (ج) موقف بعض دول النظام العربي المتمثل باحتمال احتواء تركيا لعزلها عن محيطها الجديد من خلال اقامة الاحلاف والتحالفات المناوءة لها لردها لاقليمها الاوروبي .(د) موقف تركيا المرجح بتحملها لكافة تكاليف و اعباء لجوءها ذاتيا و احتواء الاحلاف و التحالفات التي تقام ضدها من خلال (1) التحالف مع الدول المؤازرة لها (2) عودة تركيا الى تحالفاتها السابقة مع المعسكر الغربي بوضع اضعف مما كانت عليه وضمن شكوك تجاه نواياها.
اذن , فالتفاعل المفترض للنظام العربي في اقليم الشرق الاوسط تجاه الجمهورية التركية مع عديد العوامل المذكورة للتحالفات و عواملها المستقلة و غير المستقلة بأعلاه قد اهمل لعقود من الزمن مما عكس ضيق الافق النظري و العملي للنظام السياسي العربي و اضعفه و جعله عرضة للتدخل الاقليمي و الدولي الممنهج و المفاجىء على حد سواء .
ان ما سيطرح بادناه من سيناريوهات حول توجهات الجمورية التركية المحتملة فيما يخص اقليم الشرق الاوسط لا يمثل الا بعضا من عديد السيناريوهات الاخرى كتلك الخاصة بتوجهات تركيا في اسيا الوسطى و انعكاساتها على اقليم الشرق الاوسط .
السيناريوهات الخاصة بأقليم الشرق الاوسط بأدناه قائمة على معطيات موضوعية واسس واقعية وهي:
1. اذا ترسخت القناعة لدى الجمهورية التركية باستحالة انضمامها الى الاتحاد الاوروبي بشكل قطعي ، فإن دور تركيا الجديد في اقليم الشرق الاوسط سيكون سلبيا نسبيا بالنسبة للغرب على المدى القصير و المتوسط على اقل تقدير .
2. اذا ساد اعتقاد الجمهورية التركية بعدم جدوى الدور الامريكي لحمل الاتحاد الاوروبي على انضمام تركيا بشكل قطعي، فأن تركيا ستعيد تقييم علاقاتها مع حلف شمال الاطلسي ليس بكونها رأس حربة تقليدية لهذا الحلف بأي ثمن كان، بل فستمضي قدما في سياسة تكون اكثر توازنا في سياستها الاطلسية مما يشكل لها عامل طرد جزئي من الاقليم الاوروبي و حلف شمال الاطلسي مع وقف تنفيذ جزئي كذلك .
3. اذا قامت الولايات المتحدة بخفض وجودها العسكري بدرجة كبيرة في كل من افغانستان و العراق بشكل منهجي ومتسارع كما هو متوقع، فإن بعضا من عبء ملء الفراغ السياسي و الامني سيقع على كاهل الجمهورية التركية بشكل قسري, مما سيدفع تركيا الى محاولة ملء الفراغ ضمن قدراتها ان استطاعت ذلك، هذا ان لم تكن اصلا ضمن دول منظومة الفوضى الخلاقة بشكل او بآخر.
يعكس السيناريوهان الاول والثاني عدم مواكبة بعض دول النظام العربي لسياسات القوى الكبرى و العظمى تجاه اقليم الشرق الاوسط و الاحلاف وانماط التحالفات بشكل منهجي استقرائي بعد انتهاء الحرب الباردة, ويشكلان كذلك عامل طرد جزئي للجمهورية التركية من النظام الغربي و عوامل طرد و جذب محتمل لتركيا من قبل بعض دول اقليم الشرق الاوسط .
يعكس السيناريو الثالث سياسات القوى العظمى والكبرى تجاه اقليم الشرق الاوسط كذلك، ويشكل عامل تدخل قسري لتركيا في اقليم الشرق الاوسط .
4. اذا كان دور الجمهورية التركية الجديد هو توجه لاحتواء المد و النفوذ الاسرائيلي المؤثر والمتعاظم بسبب مخاوف تركيا من الدور الاسرائيلي الاستراتيجي التقليدي في اقليم الشرق الاوسط على سبيل المثال في دعم انفصال اقليم كردستان او اقامة كيان كردي مستقل في تركيا، فإن الدور التركي لن يكون معارضا لدور بعض دول اقليم الشرق الاوسط لاحتواء اسرائيل بل مكاملا له .
5. اذا كان دور الجمهورية التركية الجديد هو توجه لاحتواء المد و النفوذ الايراني الفاعل بسبب مخاوف تركيا من الدور الايراني الاستراتيجي التقليدي في اقليم الشرق الاوسط و على سبيل المثال في دعم تقسيم العراق بشكل عام و اقليم الجنوب العراقي بشكل خاص بالتوازي مع المد الشيعي, فإن الدور التركي لن بكون معارضا لدور بعض دول اقليم الشرق الاوسط لاحتواء ايران بل مكاملا له .
يعكس السيناريوهان الرابع و الخامس الحركات الايدولوجية عبر الاقليمية و القومية و الدينية والانماط الاقليمية لاقامة الدولة و التدخل العسكري المعلن و غير المعلن و النزاع المسلح , ويشكلان عامل جذب لبعض دول النظام العربي لجهة التحالف مع الجمهورية التركية للحد من النفوذ الايراني و الاسرائيلي و عامل طرد لبعض دول النظام العربي الاخرى لجهة التحالف ضد تركيا للحفاظ على النفوذ الايراني و الاسرائيلي .
6. اذا كانت مخاوف النظام العربي مردها دور تركيا القومي او العسكري او العلماني فأن الديمقراطية التركية قد اثبتت اعتدالها ووسطيتها فيما يتعلق بمكوناتها المذكورة و ذلك عبر الانتقال من الدور القومي العسكري العلماني المتطرف الى الدور الاسلامي الوسطي من خلال الموافقة على الاستفتاء الخاص بالدستور.
يعكس العامل الديمقراطي هذا مكون اساسي للسياسة الداخلية و الخارجية, ويعتبر كصمام امان بالحد الادنى للجمهورية التركية وبالتبعية, عامل ايجابي للحد من مخاوف بعض دول النظام الشرق اوسطي من الدور التركي الجديد .
مما ذكر , يعتبر قيام الاردن التقدم بمبادرة تحالف استراتيجي مع الجمهورية التركية عامل توازن واستقرار لجهة المساهمة باحتواء بعض مخرجات الفوضى الخلاقة, خاصة الاسرائيلية منها والمتمثلة بأخذ سياسة الوطن البديل الى حافة الهاوية.