بمناسبة اليوبيل الفضي لحكم جلالة الملك عبدالله الثاني، أود أن ألقي إضاءات على جهود جلالته في الدفاع عن صورة الإسلام، وتوضيحه، ونقل الصوت الحقيقي للإسلام إلى العالم. وهذه الجهود بقيت حاضرة على أجندة نشاطات جلالته الفكرية والثقافية والسياسية عبر ربع قرن من سنوات حكمه. فقد استثمر جلالته حضوره الدولي المؤثر، وما يتميّز به من إرث هاشمي تليد، وما يمتلكه من قدرات ومهارات متميزة في مخاطبة العالم غرباً وشرقاً، وما يتمتع به الأردن من إحترام ومصداقية في المجتمع الدولي، وسجلٍ ناصعٍ في العلاقات الدولية.

لقد وظّف جلالته هذه الميزات للدفاع عن صورة الإسلام السمحة ومواجهة الإسلاموفوبيا التي تغذيها اعتبارات تاريخية وحضارية ومصالح في الغرب، وممارسات بعض المسلمين وخطابهم الفج الذي تلتقطه دوائر معادية للإسلام والمسلمين والعرب وقضاياهم، وتروّج له باعتباره ممثلاً للإسلام والمسلمين والعرب.

وكانت مواجهة ظاهرة الخوف من الإسلام(Islamophobia) من أبرز القضايا التي اهتم الخطاب الملكي بها، فقد تحدّث جلالته عن أسباب الظاهرة وعوامل تناميها، وسبل مواجهتها. ودأب على نبذ الأفكار والممارسات المسيئة التي تُلصق بالإسلام، بهدف تشويهه وتنفير الناس منه، وتصويره بمثابة خطر على السلم العالمي.

وآمن جلالته بوجوب أن نوضّح الصورة، وننأى بالإسلام العظيم عن ظاهرة الإرهاب التي حاول العديد من قادة الرأي والصحافة في الغرب إلصاقها به. والمطلوب منا عرباً ومسلمين - في الخطاب الملكي - أن نغيّر الصورة لدى الغرب، من خلال حملات مكثّفة، توضّح موقفنا من الإرهاب، وتبيّن سماحة الإسلام. (مقابلة جلالته مع صحيفة الحياة، شباط 2002).

وخاطب جلالته المجتمع الدولي تارة، والمجتمعات والدول العربية والإسلامية تارة أخرى. وتحدّث عن دور العرب والمسلمين في مواجهة ظاهرة الخوف من الإسلام، وما تتعرض له "صورة الإسلام ورسالته السمحة" من تشويه، وحثّ على خلق مواجهة مضادة مع الحرب على الإسلام، وأن هذا التصدي هو واجبنا، كما أن هذه الحرب "حربنا نحن المسلمين، فإما أن نواجهها فرادى، أو أن نأخذ القرار الصائب بالعمل الجماعي الشمولي". (خطاب جلالته في مؤتمر القمة العربية، نواكشوط، 2016). وهذا الواجب – في نظر جلالته - لا يقتصر على العرب والمسلمين، لكنه واجب دولي، نظراً لما يمثله التخويف من الإسلام من مخاطر تتهدد العلاقات بين الحضارات والثقافات والدول، مؤكداً أن مكافحة ظاهرة الخوف من الإسلام، هي في مصلحة العالم أجمع، وناشد المجتمع الدولي بأسره (خطاب جلالته في مجلس الأمن 2014) بوجوب "أن نكافح كل أشكال الإسلاموفوبيا" .

واهتم جلالته وهو يناقش ظاهرة الإسلاموفوبيا بالبحث في أسبابها والكشف عن منابعها، بهدف تجفيفها، ومن خلال قراءة مجمل خطابه الفكري فقد شخّص أسبابها فيما يأتي:

1- إساءة فهم الإسلام وتشويه صورته

لطالما ناقش الخطاب الملكي الشبهات المثارة ضد الإسلام، ونفى عنه سوء الفهم، الذي يلصق به كدين يجافي العلم والتحديث، ويقبل بالتخلف أو يغذيه، أو أنه يقبل الاستنكاف عن المساهمة في الجهد الإنساني في ميادين العلم والتقدم؛ "ليس صحيحاً أيضاً أن الإسلام يمنع أتباعه من الانخراط بالعالم الحديث بشكل بنّاء. فالقرآن الكريم والحديث الشريف يؤيدان عقيدة ديناميكية تقوم على البحث والتفسير.

منذ الأيام الأولى، دعي المؤمنون إلى مناقشة مبادىء عقيدتهم وتعليلها وتطبيقها ضمن الواقع الذي يعيشون فيه". ( لوس أنجيلوس تايمز، سبتمبر 2003). واستشهد بوقائع التاريخ وشواهد الإنجاز الحضاري، للعرب والمسلمين في ظل الإسلام، فقال: "لقد انبثق العصر الذهبي للإسلام، بدءاً بالقرن التاسع للميلاد، نتيجة عمل مفكرين مسلمين مستنيرين. كانوا رواداً لتقليد عقلاني ليبرالي وحضارة مزدهرة متعددة الأعراق. أرسى العلماء المسلمون معالم بارزة في الطب وعلم الفلك والعلوم والعدالة الاجتماعية، وهي أفكار هيأت الطريق أمام النهضة الأوروبية" . ( لوس أنجيلوس تايمز، سبتمبر 2003). .

وحذّر الملك عبدالله الثاني من خطورة الفهم المغلوط للإسلام، الساكن في ذهنية قادة العالم، وفي الغرب تحديداً، وخطورة هذه الحالة تكمن- في رأيه - في زرع الفرقة بين المجتمعات والثقافات، إذ يقول: "أجد نفسي مصدوماً من الفهم المغلوط لطبيعة الإسلام لدى العديد من المسؤولين الغربيين، والمعاهد الفكرية، وقادة الإعلام، وصنّاع السياسات، حيث أجد نفسي مضطراً لتوضيح ما هو واضح المرة تلو الأخرى" . ولفت نظر القوى الفاعلة في هذا العالم، إلى العلاقة الطردية بين ظاهرتي الخوف من الإسلام والتطرف والإرهاب، فكلما نمت الأولى، أثمرت تصاعداً في الثانية. (الجمعية العامة للأمم المتحدة، 2016).

2- الاستسلام للصور النمطية للآخر

ونبّه الملك عبدالله إلى خطورة الاستسلام للصور النمطية، مطالباً بمحاربتها، وتعزيز ثقافة احترام الآخر لدى الجميع، وترسيخ ثقافة الروابط المشتركة الدينية والحضارية لدى الشباب على امتداد العالم. وأكد أن العملية تأخذ مجراها في العالم الإسلامي الآن، لكنه تساءل: وماذا بخصوص جميع الأديان، وجميع الثقافات؟ فتعزيز ثقافة الاحترام العالمي، جهد مطلوب من الجميع، وليس فقط من المسلمين. وعبّر بوضوح عن إيمانه بأن التطرف ليس حكراً على بعض المسلمين، لكنه موجود في كل الأديان والثقافات، وأبدى دهشته مما يلمسه لدى قادة الغرب والسياسيين والإعلاميين، من فهم قاصر ومشوَّه للإسلام. وهذا ما يستثمره المتطرفون على اختلاف منابعهم لزرع المزيد من الفرقة والحواجز بين بني البشر. "إن المسار نحو التسامح والاحترام ليس مقتصراً على المسلمين وحدهم، فعلى جميع الدول والشعوب أن تقوم بدور في هذا السياق، وهذا يعني رفع الصوت ضد الصور النمطية والتحقير على كل مستوى، كما يعني ترجمة هذا الالتزام إلى أفعال". (خطاب جلالته في البرلمان الهولندي، 2006).

ويدحض الملك عبدالله شبهةً تشكّلُ جزءاً من الصور النمطية السلبية المثيرة للخوف من الإسلام، مفادها الزعم بأن الإسلام يقوم على أيديولوجية متطرفة في الأساس، وأن التطرف حكرٌ على الإسلام. وذهب إلى ضرورة التفريق بين الإسلام في جوهره وحقيقته، وبين الأيديولوجيا الفاسدة التي يتبنّاها نفرٌ متطرف من المسلمين. (خطاب جلالته في جامعة شولالونجكون، بانكوك، 2005).

3- تصاعد ظاهرة الإرهاب المُلصَق بالإسلام

وعدّ الملك عبدالله الثاني ما يمارسه بعض المنتسبين للإسلام وبإسمه، أحد مصادر التحريض ضد الإسلام، وتشكل مادة حيّة تستثمر في تشويه صورة الإسلام. وفي ذروة صعود "داعش" وأخواتها في سورية والعراق والمنطقة العربية، وما اقترفته من جرائم إرهابية، شدّد الملك عبدالله الثاني على أن "التفسيرات المغلوطة التي يتشدّق بها الجهاديون التكفيريون؛ هي محل النزاع والخلاف، وهؤلاء هم أصل المشكلة ويمثلون 2% من الإسلام السني فقط". ولا يمكن اعتبارهم ممثلين لحقيقة الإسلام والمسلمين، فهم يرفضون "الاعتدال الأصيل للإسلام وانفتاحه، وهي مزايا جعلت من العالم الإسلامي الموطن التاريخي للتنوّع والتعلم، كما أن عنفهم لا يشكل "جهاداً" أو حرباً مقدسة، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، يعلّمنا بأن الجهاد الأكبر... هو جهاد النفس".(مقابلة جلالته مع شبكة (C.B.S)، أيلول 2016). ويشير الى وصية أبي بكر، الخليفة الأول، رضي الله عنه، لجنوده المسلمين باحترام المدنيين والمسالمين، والالتزام بأخلاقيات الحرب في الإسلام. ( الواشنطن بوست، ديسمبر2002) . ويذكّر العالم بأن الجنود المسلمين كانوا يتلقون تعليمات صارمة لحماية المدنيين، قبل وقت طويل من صدور مواثيق جنيف حول الحرب في القرن العشرين، ويعيد الإشارة الى المضامين الأخلاقية السامية الواردة في الإسلام الهادفة لضبط سلوكات المسلم الفرد والجيش المسلم في حالة الحرب. ( صحيفة لوس أنجيلوس تايمز، سبتمبر 2003).

وقدّم الملك عبدالله الثاني رؤية لسبل مواجهة ظاهرة الخوف من الإسلام، يلزمنا العودة إلى عرضها ومناقشتها.

*أستاذ التاريخ والحضارة في جامعة الحسين التقنية