تداول الأيام بين الناس لا يحدث تلقائيا!
اللواء محمد البدارين
08-02-2024 10:50 PM
في بداية عصر الصعود الى الهاوية ، شهدنا كيف باع الحاكم الجديد نفسه ، وكيف باع الرسالة نفسها ، وهو يبحث عن ذاته في فراغ سلفه ، مع ان سلفه لم يكن نبيا ابدا ، اما خليفة النبي ، فسيستبعد بغضب رأي نائبه القوي ، وسيقرر فورا شن الحرب ضد المتمردين ، مستعيدا في وقت قصيرجدا وحدة الدولة الناشئة وشعبها ، وما ان ينتهي من حربه في الداخل حتى يقرر من دون تردد خوض حربه في الخارج على جبهتين في وقت واحد ، لتحرير الشام والعراق من الاحتلالين البيزنطي والفارسي ، فليس للروم أي حق في هذه البلاد ، والعرب كانوا سلفا قد باشروا حربهم لتحرير العراق وحققوا نصرهم المفاجىء في ذي قار.
ولم يمت الخليفة الأول ، إلا وقد تأكد بأن استراتيجيته للتحرير والفتح ، قد أصبحت قيد التنفيذ ، فقبل وفاته بقليل ، أمر خالد بن الوليد أن يتحرك سريعا من جبهة العراق الى جبهة الشام لإنقاذ الموقف المتدهور هناك ، وحسم الأمر نهائيا مع الروم ، وسيقال بعد قليل ، لقد أتعبت الحكام بعدك يا أبا بكر ، ففي تلك اللحظة الحاسمة من القرن السابع الميلادي ، سيتغير وجه التاريخ للابد.
ولم تكن هناك أية اعتبارات ، وراء نقل العاصمة من المدينة الى دمشق ثم الى بغداد ، الا اعتبارات ترسيخ أركان الدولة العظيمة وتقليل تكاليف بسط السيطرة ، وحماية وحدة الأمة ، ولا توجد أية حقيقة على الاطلاق في تلفيقات يوسف زيدان والقمني وابراهيم عيسى ، ومن لف لفهم ، فلا شيء في الشام قبل معاوية ولا بعده ، ولا شيء في بغداد قبل الرشيد ولا بعده ، فكلا الرجلين وجهان لعملة واحدة ، فهاشم نفسه جد الرشيد ، هو عم اميّة جد معاوية شقيق أبيه ، ولم يكن ممكنا أن تدول تلك الدولة الكبيرة ، إلا بموجب قوانين التداول بين الأمم ، التي لا تحدث تلقائيا ، بل تجتمع لحدوثها عوامل وأسباب قابلة للملاحظة والفهم.
وحين يتم الاعتداء امس على ضريح معاوية في دمشق ، سنفهم بعض الاسباب ، وسنتعرف على أصل بعض الطقوس الدينية المصاحبة للاعتداء ، وسنتأكد ان الله لا يداول الأيام بين الناس تلقائيا ، فقوانين الصراع وموازينه ليست طلاسم إلا عند مفسري الاحلام ، وسنفهم الان اكثر لماذا أفتى من افتى بعدم جواز مقاومة الاحتلال الامريكي لبغداد والبصرة حديثا ، البصرة التي انتشر الاسلام منها بحرا وبرا إلى كل آسيا ، فهل صحيح أن كل ذلك كان يحدث من تلقاء نفسه ، ثم أليست أدبيات الاستسهال إلا نتاجا للثقافة السائلة واسهالات الفكر اليومي السائدة ، وفق زيجموند باومان ، وهل كان ممكنا ظهور هيفاء وهبي وكيم كارديشيان بدون حاضنة ثقافية تافهة، يشرحها بدقة الن دونو ومشاعل الهاجري ، ثم ألم يشرح المهدي المنجرة مخاطر عصر الإهانة بكل وضوح! حتى نفذ كتابه من السوق في اليوم الأول لصدوره.
وكما كان يتوقع المنجرة ، فقد ثبت ان قانون الاهانة نفسه يحمل في داخله استحالاته ، فلا قدرة للإنسان أن يتحمل قدرا فائضا من الاهانة دون رد ، وفي هذه المنطقة بالتحديد تعرض العرب والمسلمون لما لا يحتمل ولا يطاق من صنوف الاهانة ، وهي اهانة مركبّة وفق المنجرة ، ومن المستحيل توفير مزيد من القدرة على التحمل حسب الشروط البشرية ، ولذلك كان كتاب الاهانة نبوءة علمية دقيقة ، فسّرت مسبقا كل ما حدث في هذه المنطقة منذ بداية هذا القرن ، وصولا الى ما يحدث الآن في غزة.
وبشكل أعمق وأخطر فانه ما لم تنجح ابحاث تعديلات الشرط البشري ، وهي لن تنجح ، يجب أن تفهم كل اجهزة الاهانة في هذا العالم الحكمة البسيطة القائلة بأنك إن حبست القط سيتحول عليك أسدا.
لقد فشل برنامج دايتون الباهظ التكاليف ، فالفلسطيني المطلوب تعديله ، لم يتعدل ابدا ، والأسوأ أن المعتدلين مسبقا باتوا الآن بدون أي غطاء ، بفعل سياسات الاهانة المفرطة التي دأبت على اتباعها سلطات الاحتلال وقوى الهيمنة ، وليس بوسع كل أدوات القوة والسيطرة المعمول بها حتى الآن أن تسحب من المخلوق البشري كرامته لكي يتحمل كل ذلك القدر من الاهانة ، واذا ما نجحت قوة ما في تعديل خلق الله سيكون ذلك انهيارا يهدد المصير البشري ، بعد كل ما أصاب الأرض من اختلالات باتت تهدد مصير كل شيء حي.
انتهى عصر الصعود الى الهاوية بكل أعراضه وتوابعه ونتائجه ، ولم يعد أحد قادرا أن يدافع عن اي شيء يسمى السلام مع إسرائيل ، فاسرائيل حتى الان لا تبحث عن سلام الشركاء والأنداد بل عن سلام المتعاونين ، وهي لا تزال حبيسة أوهام صورة العربي المتخلف العاجز ، كما قال ايهود اولمرت مؤخرا ، وما لم تظهر قيادات جديدة في هذه المنطقة متحررة من كل الاوهام والاساطير ، فإن الدماء ستظل تسفك.
وسيكون ضروريا عاجلا او اجلا ، لكل عدو للعرب والمسلمين ان يبحث عن شركاء عرب ومسلمين ، إذا كان يرغب بتحقيق سلام فعلي في هذه المنطقة ، ووقف سفك الدماء ، فكل من يراهن على أدبيات العصر المنتهي عليه ان يعيد حساباته ، او ان يستمر في دفع تكاليف أوهامه ، فمصير هذه البلاد حسم نهائيا والى الابد منذ القرن السابع ، ولا جدوى من تكرار نفس المحاولات التي ثبت فشلها مرة بعد مرة بعد مرة.