يتوضأ كغيمة. يسقي شفته من حلم قديم. يغرس جبينه في الارض ، كزيتونة لا شرقية ولا غربية. سجوده بدأ منذ ولادته ، وعمره بعد اربعين عاماً ، ما زال في العشر الاوائل من العمر.
في الغرفة العتيقة ، اصوات صغار يرتلون القرآن. هذا شيخهم. تتلمذ على يده الاف الصغار من حفظة القرآن. منذ الف عام يجلس ذات الجلسة ، في ذات الغرفة العتيقة. لا يمل ولا يكل. قدماه تشققتا من السفر ، وُحكم السماء عليه بالجلوس بسر "اقامك حيث اقامك".
يتوضأ كغيمة. يطرق باب الشيخ ليستأذنه ان يفتح باب المسجد الاقصى المغلق ، والناس نيام. يتبسم الشيخ الجليل في وجه الطفل. يقول له: ما لي اراك متعباً في سفرك؟. يذرف الطفل دمعة عذبة ، ودمعة اخرى مالحة تسرقها الغيمة ، حتى لا يراها احد.
يرد الطفل: لم يبق ذئب في الوادي الا ونهش جسدي. لم يبق سارق في المدينة الا وحاول سرقة سيفي. لم يبق عابر طريق الا ورمى علي الحجارة غير المقدسة. لم يبق طيف اسود ، الا وحاول غسل قلبي.
لم يبق مغامر الا وحاول امتطاء صهوتي. لم يبق عابد في ظاهره وثني في باطنه ، الا وحاول غمس حروفي في الاثم والكبائر. لم يبق كاذب الا وحاول قراءة القرآن بالمقلوب فوق رأسي في هذياني ومرضي ، لم يبق مدعي زهد الا وفسق مثل لص على ارضي.
لم يبق احد مغموس في بحار الاثم والعمى والشك والجهل ، الا وظن نفسه ، ولي الامر ، حتى حلت علي لعناتهم ، وحلت لعناتي عليهم ، أعميان يريدون اخذ ناصية مبصر؟ ، وحفارو قبور ، يدعون قدرتهم على زرع القمح في كفي؟،.
لصوص يلبسون عمائم. وسراق ليل ينتهكون الحرمات. وقتلة من الاقارب والابعدين يدعون الجمال ، والقبح على وجوههم تبدى ، وارواحهم في بحر العذاب محشورة ، وفوقهم عابرات البحار ، سارقات النور ، آثمات البصيرة والبصائر.
يتبسم الشيخ مجدداً في وجه غضبة الطفل ويقول: درب الالام اذن ايها المحمدي. قدمك على قدم موسى ، فعليك ان تصبر ، على ثماني حجج ، وفرعون يهدد في الوديان ، لا يريد للراية ان تشرق في الجبل ، وقد تبدت انوارها ، فعمت بصائر كهنته بحثاً عن صاحبها.
صمت الطفل فقد اعياه السفر والكلام وما خلف الكلام من كلام ، حتى ظن انه وارد مورد الهلاك ذات يوم قريب او بعيد.
سكت الشيخ. توضأ من الثلج المنثور فوق قبة غرفته العتيقة ، عاد الى الطفل الصغير ليمسح على رأسه. يحنو عليه. يتيم هو في المدائن. سيدها ايضاً. بين اليتم والسيادة ، يتبدى السر في اليمنى.
قال له: يا صاحب الوجه الجميل كيوسف. اصبر اصبر ، فان بينك وبين الوادي المقدس ، لمحة. اخرج يدك بيضاء تخرج من غير سوء. قبل ان تخر صعقاً.
يمتطي الطفل الصغير صهوة سره. امتار قليلة تفصله عن المسجد الاقصى. وما بين الاقصى والغرفة العتيقة روضة من رياض الدنيا والاخرة.
يخرج المفتاح من جيبه. يفتح القفل. يدير الباب الثقيل الى ميمنته. يدخل بقدمه اليمنى ، مسجد الله الاول. النور يتبدى في المسجد ، يمشي ثلاث خطوات ، واذ به في عروج الى السماء. سبوح قدوس رب الملائكة والروح. والتسبيحات والتكبيرات في كل سماء.
هنا اصل المطر. هنا سماء المطر. دمع الملائكة يتسلل غيماً الى الزيتون. يقف الطفل ليبكي. أهي.. سماء البكائين على قدس مسلوبة. يبكي حتى كأن النيل ينبع من عينيه ، وكأن دجلة والفرات يفيضان من لمعة عينيه الخضراوين.
يرفع كفه ليدعو. قبل ان يدعو. يستجاب له. همته من سر سماء المطر.سماء البكائيين.يقول في سره: يارب بيتك يارب بيتك. يا رب اقصاك يا رب اقصاك؟ فيعرج من سماء البكائين الى سماء المبشرين.
يخاف. يسمع من بعيد صوت امه. حنين صوتها يزيل الهلع من قلبه. يغفو في وقفته من فرط وجده. يعود الى حاله الاول. فإذ به عند منبر صلاح الدين الايوبي في ذات المسجد المسلوب والسليب. يصعد درجات المنبر.
يتنزل عبر درجات المنبر. يذهب الى المحراب. يطرق جدار المحراب كباب. يفتح له. هذا هو عالم اخر. لا يراه كثيرون. يدلف الى غرفة عتيقة اخرى. واذ بالشيخ الجليل فيها على كرسي من عقيق وفيروز ونور.
يتبسم الشيخ ويقول له اقبل ها هنا آمناً. يسير الطفل وقد تعرق جبينه نوراً وفاض وجهه ماء ورد وياسمين. يجلس الطفل الصغير في حضن الشيخ ويخرج له قلادة خضراء. يضعها حول عنقه ، ويقول له: آن اوان خروج الرجل من قلب الطفل.
تشرق الشمس ، اول ما تشرق في المسجد الاقصى ، وتتوضأ كل يوم فيه ، قبل ان تبدأ دورتها ورحلتها حول العالم ، واذ في تلك اللحظة تشرق الشمس على وجه الطفل ، في اقصاه ، فلا يعرف حتى الشيخ ايهما اكثر اشراقاً،.
يسقط المطر ، من سماء البكائين ، فيمر صعوداً عبر سماء المبشرين ، فيتنزل على قباب القدس ، قبة قبة ، من الزرقاء الى الذهبية ، مروراً بكل القباب ، في البلاد المقدسة ، فيستفيق البيدر من غيبته.
يقف الرجل ليؤذن. في قلبه ما زال هناك طفل صغير. يقول بصوت مرتفع: انا باقون ما بقي الزعتر والزيتون. فتعيد القباب النداء ، ولا يتردد الصدى ، فهذا "زمن اقبل" لا صدى فيه ، وتنقل القباب الكلام ، كهمس الامهات في مسامع اطفالهن في الليالي الباردة.
تذرف قبة الاقصى دمعتها ، فتتوضأ بالمطر ، والطفل يسكب الماء لركعتين في العشق ، يصح وضوؤهما بماء الثلج ، وحبات الزيتون تسمح بقطفها طوال العام.
للقدس سماء ، ولنا سماء ، ولفلسطين قدر منقوش تتبدى اشراقاته عما قريب.
mtair@addustour.com.jo
(الدستور)