يأخذنا الأحمر القاني بعيدا عن الربيع ، بلونه الذي يغلب عليه الأبيض ، يسرق منا هدأة النوم ، فتختلط أحلامنا البيضاء الشفيفة ، بصور الضحايا تملأ الساحات والشاشات ، أنى اتجهنا يفرض الأحمر سطوته ، وتهيمن الأحاديث الساخنة على أي سكينة ، أو تجاذبات أو همسات،.
اعتدت في يوم الجمعة أن أهرب بعيدا عن السياسة والجد الكامل ، كي أريح وأستريح من لهاث الأسبوع كاملا في مطاردة الحدث ، وقراءته ، لكن أنى لهذا القلم المغمس بالهم المنثال من بيوتات العرب جميعا أن يركن إلى زهر اللوز ، ويتأمله وهو يتحول إلى كينونة ثمرية جميلة ، أو أن يرقب هجوم النحل على الأزهار ، وثمة هجومات أخرى تعطل التفكير وتشل العاطفة ، هجومات تستل حيوات إخوة هنا وهناك ، في بيداء العرب ، وتسلبهم حريتهم وأرواحهم ، تمسكا بمقعد ملوه وملهم،.
مخاوف مخاوف ، أنى اتجهت تستمع إليها ، تكاد تفقدك عقلك ، مخاوف من أي تغيير ، ومخاوف من أن لا يحصل أي تغيير ، وأخرى من ثمن هذا التغيير ، ورابعة من ذهاب ريح التغيير بمكتسبات صغيرة شخصية ، وخامسة من استثمار التغيير ، وسادسة من ركوب موجاته ، وسابعة من عبثيته ، باعتبار أن بعض الشعوب غير صالحة للتغيير ، فوضى من الرؤى تبعد عنك أي أحلام بلحظة استرخاء تحت شجرة لوز،.
زهر اللوز الأحمر الذي يشبه الثلج القطني الذي يهبط علينا بين موسم وآخر ، تحول إلى زهر أحمر ، له أشواك تُدمي ، ورائحته العبقة بالمخمل ، تحولت إلى دخان مشبع برائحة اللحم الآدمي المشوي ، كان مصطفا في قبيلة الربيع ، وإذ به يلحق بجحافل العاصفة الهوجاء ، التي لا تبقي لا بتلات ولا نحلات ، ولا غبار طلع ، لكأننا هذا الموسم لن نأكل لوزا ، بل سيأكلنا بسميته العالية ، وتشوهه بدخان النفط وغبار الصحراء،.
حزن دفين كبير يتفجر في القلب ، يقاومه تفاؤل لوزي مشوب بالأمل ، أن تزهر أماني الشعوب ، فتعيش ربيعها المأمول ، دون ثارات أو حسابات تفسد لذة النصر ، فالجروح العربية هذه الأيام كلها في الكف ، والمواجهات عربية - عربية ، وإن أخرجها المجنون الدموي في باب العزيزية عن وجهتها ، حينما استدعى مرتزقة الكون لمحاربة أبناء شعبه ، بل واستعان بمشعوذي افريقيا وسحرتها ، وخبراء الحرب والموت في إسرائيل ، هؤلاء الخبراء الذين قرروا أن يخوضوا حربا ضروسا ضد أحفاد عمر المختار ، خوفا من أن يخرج من قبره فيتحالف مع القسام ، وتلكم هي نهايتهم ، فليستبقوا الزمن ، وليحاولوا أن يسحقوا زهور اللوز ، قبل أن تجري ثمارها في عروق الأحرار ، دما زكيا يغرقهم،.
لوصف زهر اللوز ، لا موسوعة الأزهار تسعفني ، ولا القاموس يسعفني.. سيخطفني الكلام إلى أحابيل البلاغة ، والبلاغة تجرح المعنى وتمدح جرحه ، كمذكر يملي على الأنثى مشاعرها.
فكيف يشع زهر اللوز في لغتي أنا ، وأنا الصدى؟ وهو الشفيف كضحكة مائية نبتت على الأغصان من خفر الندى.. وهو الخفيف كجملة بيضاء موسيقية.. وهو الضعيف كلمح خاطرة.
تطل على أصابعنا ، ونكتبها سدى ، وهو الكثيف كبيت شعر لا يدون ، بالحروف ، لوصف زهر اللوز تلمزني زيارات إلى اللاوعي ترشدني إلى أسماء عاطفة ، معلقة على الأشجار. ما اسمه؟ ما اسم هذا الشيء في شعرية اللاشيء؟ يلزمني اختراق الجاذبية والكلام ، لكي أحس بخفة الكلمات حين تصير طيفا هامسا فأكونها وتكونني ، شفافة بيضاء لا وطن ولا منفى هي الكلمات ، بل ولع البياض بوصف زهر اللوز لا ثلج ولا قطن فما هو في تعاليه على الأشياء والأسماء.
لو نجح المؤلف في كتابة مقطع في وصف زهر اللوز ، لانحسر الضباب عن التلال ، وقال شعب كامل: هذا هوَ هذا كلام نشيدنا الوطني،.
رحم الله محمود درويش.
hilmias@gmail.com
(الدستور)