لتبقى عدسات الكاميرات بعيدة
عامر طهبوب
02-02-2024 09:41 PM
ثمانية آلاف شهيدة ويزيد ارتقين إلى سماء ربهن في قطاع غزة منذ بدء العدوان الصهيوني الهمجي، ثمانية آلاف امرأة وصبية ويزيد، هل رأيتم على شاشات التلفاز صورة شهيدة، هل رأيتم جثة امرأة، صورة صبية في الثالثة عشرة من العمر أو أكثر، هل رأيتم مصوراً يوجه عدسة كاميرته لامرأة شهيدة؟ مستحيل أن يحدث ذلك، أبداً لم يحدث، وأبداً لن يحدث، الفلسطيني يحافظ على عرضه في الحياة والممات، يستر عرضه في الحياة فوق الأرض، أو عند الارتقاء إلى السماء، لا يتاجر لا بأرضه ولا بعرضه، والعرض عند الفلسطيني وطن، ولا يسعى إلى كسب تعاطف أحد إذا تعلق الأمر بعرض أهل بيته، وكل فلسطينية في غزة عرض لأهل غزة، وكل غزية فارسة، ومبجلة، شريفة، ويحافظ على شرفها من الدنس.
تلك مسألة متوارثة عن مناجم الشرف، والنخوة، والستر على الأعراض، ورقي لا مثيل له، يعرض الغزي ولده الشهيد، وطفلته الشهيدة، وطفله الشهيد، وشقيقه الشهيد، ووالده الشهيد، وجاره الشهيد، وصديقه الشهيد، ويستر على الشهيدة، يدثرها، يلفها بالبياض، لا يظهر من جسدها لا وجهها، ولا قدميها، ولا كفيها، ولا شعرة في رأسها، وأما المرأة الغزية التي ما زالت فوق الأرض، فتنام مرتدية "اليانس"؛ لباس الصلاة، جتى إذا لاقت وجه ربها، تلاقيه مستورة الجسد، مجاهدة، صابرة، مؤمنة، محتسبة، صلبة، تجمع من حولها أولادها، وتناضل من أجل إطعامهم، والحفاظ على سلامتهم.
هل رأيتم في الحروب التي عرفها التاريخ امرأة كتلك المرأة الغزية، هل قرأتم التاريخ، هل عرفتم كم امرأة في عديد من الحروب، سلمت نفسها لجنود الاحتلال من أجل الحفاظ على حياتها، ومن أجل علبة سجائر، أو قطعة من البسكويت بعد أن ينال منها الجوع، الغزية تموت ولا تأكل بثدييها كما قالت العرب، والغزية فاقدة للشهوة، نسيتها، ربما تسعى إلى الإنجاب أكثر من رغبتها في الحصول على اللذة، والغزي كذلك صاحب لذة مفقودة، كل همه أن يصارع الحياة حتى يبقى، وحتى تبقى الأرض تحت أقدامه غزية، وتظل رمال غزة صدره الحنون، ويظل البحر بحراً، يحمل همه وآماله في مستقبل يُبقي الماء أزرق على زرقته دون أن تختلط مياهه بالدم.
لم تتردد عبارة "غزة عزة" من فراغ، أرض البطولة، جحر الديك، وعرين الأسود، والبطن السمين نحيلاً فاقداً للغذاء، لكنه يقاوم، والمراكب حُرقت، والغزي لا يهوى ركوب البحر إلا للصيد، والدنيا ما زالت بخير، ما زال في غزة من يدافع عن عزتها، وعن كرامتها، وسلامتها، والفلسطيني لم يعد يرغب في أن يعد العشرة، قلب المثلث الأحمر، وقرر أن يموت لهدف، ربما لم يكن يعرف قبل الحرب بوضوح هدفه في الحياة، وأما في الحرب، فقد عرف هدفه جيداً، وعلى الجيش المحتل أيضاً أن لا يعد العشرة، وكما قال سميح القاسم: لا تعدوا العشرة، ولا نعد العشرة، وليستمر القتال.
نعم فقدنا ثلاثين ألف شهيد، وأصيب 66 ألفاً، وفُقد الآلاف، ولكن لا خيار في غزة الآن سوى مواصلة النضال، حتى يخرج هذا المحتل مهزوماً يجر أذيال الخيبة والمرارة، ليس للغزي اليوم بيتاً يخاف عليه، أو مستشفى يحرص على سلامته، ولا مخبز أو مطحنة دقيق، بل لا مسجد يصلي فيه صلاة الفجر.
عاشت حرائر غزة، ورحم الله شهيداتها، وفتياتها، ولتبقى عدسات الكاميرات بعيدة عن جثث شهيدات غزة، عين الله تكفيهن، ولهن الستر في الدنيا والآخرة، ولذويهن الصبر على المحنة، والبركة في نيل الشهادة.