يا علي..
يملكُ القاتل كلّ وسائله ، وتملكُ صمتَ عينيكَ. ورمى عليّ "في آلة التصوير عشرين حديقةْ" ، وأصاب. ورمى القاتلُ طلقاتْ أربع ، وأصاب. نحنُ مَن صوّب عليّ نحوهم ، وجسَدَهُ النبيلَ مَن صوّبَ القاتل نحوه. نجح القاتل في إصطياد الجسد ، وتخفّى وإختفى ، وفازَ عليّ بالملايين العربية تُخلّد لحظة إستشهاده ، فكرةً لا حدث.
إنسانياً ، يسيلُ الكلام كأنّه ملحّ على عطشً. فأعمارُ الرجال لا يعوّضها شيء ، سوى قيمة ما يرحلون من أجله. والشهيد العربي القطري ، علي حسن الجابر ، كبير مصوري قناة الجزيرة الفضائية ، الذي أستشهد على الأرض العربية الليبية ، في واحدة من أعظم وأخطر لحظات التاريخ العربي الحديث ، يكشفَ اغتياله واستهدافه عن مبلغ خطورة الحقيقية على طغاة اليوم.
كمينّ مسلّح لآلة تصوير ، ولًعينين صامتتين ، يقوم به نظامّ مدجّج بالسلاح والمراوغة والتدليس السياسي. ولا عجب ، بعد أن تحوّل الشعب في نظر الطاغية إلى مجرّد جراذين..،
لا بأس ، فالجريمة واضحةّ ، والقاتلُ يمارسُ أقصى حالات الإنكار البشرية ، ليؤكّد المأثور الشعبي العربي:"يقتل القتيل ويمشي في جنازته..،". فالشعبُ مارقّ وكلابّ ضالّة ، ومهلوًسّ ومغرّرّ به. وقناة الجزيرة القطرية ، في خطابات ملك ملوك أفريقيا ، هي المسؤولة عن نشر الذعر والفوضى فى الشرق الأوسط ، وهي المحرّك للأحداث فى ليبيا. وإذن ، فالجابر ، الحامل لآلة تصوير (الجزيرة) ، يستحقّ القتل..،؟ هكذا يفكّر القتلة ، وهكذا يعتقدون ، فالقوة والسلاح يمنحهم نشوة الاقتدار على فعل ما يُحرَّمُ فعله ، فلا أعراف لهم سوى أعراف القتلة والمجرمين ، غيلة واغتيال. ولا شيء ، في ثقافة الطغاة والجلادين ، غير الكمائن المسلّحة للخصوم والأعداء: كمائن للمعارضين ، فهم كلابّ ضالة. وكمائن للمحتجّين ، فهم جراذين ومدمنو مخدرات. وكمائن للسياسيين والدبلوماسيين ، فهم جواسيس وعملاء. وكمائن للإعلام ، مراسلين ومصورين وصحافيين ، فهم حقيرون وعملاء الاستعمار..،؟
يا علي..
لا يحلمُ زعيمّ عربي ، هذه الأيام ، بما حظيتَ به من آلآف العرب الليبيين ، الذين ودّعوكَ فى بنغازى. وطريق جثمانكَ الطاهر يشهد ، من "سلوق" ، إلى الكمين المسلّح فى منطقة الهوارى ، إلى بنغازي ، إلى برًّ مصر ، إلى التراب العربي في قطر ، حيث ووري جسدكَ النبيل في الثرى.
في "سلوق"الليبية ، التي تضمّ رُفات شيخ الشهداء العرب ، عمر المختار ، حيث جمّدت آلةُ تصويركَ مشهد مسيرة الأهالي المؤيّدة لثوّار ليبيا ، وعلى مسمعْ من المختار ، نًلتَ منهم ، ف"انسْعَرَ.." المجنون. لا لشيء ، إلّا لأنّكَ ، ومن دون أن تدري ، جرّدت الطاغية من أسمكً أقنعته ، التي صنعها منذ ثلاثين عاماً ، في مدينة شيخ الشهداء ، في سلوق ، حين نَقلَ جثمانه إليها من بنغازي ، مستحضراً ما تياسَرَ وتوافرَ من الزعماء العرب ، ليتمكّن من اكتساب الإرث الجهادي للمختار. وجئتَ أنتَ اليوم ، يا عليُّ ، من أقصى بلاد العرب ، لتنقلَ بالصورة رفضَ أهل مدينة المختار لحُكمً الطاغية ، فسابقوكَ لاغتيال الصورة الفاضحة لتدليسهم. فكانَ كمينهم المسلّح للحقيقة التي حملتها آلتكَ. فمنحوكَ ، ومن دون أن يقصدوا أيضاً ، شرفّ الاستشهاد في نفس مكان استشهاد عمر المختار. فطوبى لروحكَ ، وسُحقاً لأرواحهم.
يا علي..
لقد أخرجتكَ الحقيقيةُ ، ودموعُ الأمهات ، قبل الأوان ، إلى نهايتكَ المبكرة. ونحنُ مثلكَ ، ما نزال نبحثُ "خلف البحر ، عن معنى جديدْ للحقيقة.." ، فأوطاننا صارت حبالَ غسيلْ "لمناديل الدم المسفوك في كل دقيقةْ".
يا علي..
ها هي الأرض أمامكَ والضلوع ، وحطامُ أبنائنا وأسلحتهم تغطي السفوح ، غير أنّا يا علي لا نجد "أرضاً لرأس طليق..". فيا لبؤس مصائرهم ، حين أحالوا جسَدَكَ متراساً لجريمتهم..، أما أنتَ ، فإتْئدْ في وحشتنا يا خليلَ الحقيقةً الفاضحة.
(الدستور)