من الحالات التي تستهوي الشارع العربي و التي بها يُفتَقد بها عنصر النقد البنّاء أو تناول الشخصيات أو الاحداث بشيء من الموضوعية و المنطقية و الحيادية في الطرح و الانتقاد هي حالة التأليه !.
وتأتي حالة التأليه من اسقاط صفة " ممنوع الانتقاد " و ما يتبعها من خصوصية تُفرض على الحدث أو الشخص من جموع الجماهير تجعله بعدها في مصاف الممنوعين من التحليل أو التشكيك أو الانتقاد أو طرح الاسئلة حتى , و حالة الصحفيّ المصوّر الناقل الأول لاحداث غزة المؤلمة " معتز عزايزة " واحدة منهم .
معتز كما عرفناه منذ بدء طوفان الاقصى شابٌّ غزّاوي كان سابقا يحمل كاميرته و محموله و يصوّر كل شيء بمحيطه , يصوّر الورود و الشروق و الغروب , يصوّر غزّة قبل أن تدمى و غيرها من المدن التي زارها , و منذ صباح السابع من اكتوبر بات يُحتِّم عليه ضميره نقل صورة غزة و اهلها كما هي دونما تجميل أو تشويه , نقل أفظع المجازر و اقسى الصور للغرب و بسببه توضّحت صورة الصراع على حقيقتها و ساهم بشكل أو بآخر بتحريك الجموع الشعبية الغربية نحو الشوارع و العواصم لنصرة المستضعفين و المظلومين في القطاع .
ما حدث مع معتز هو تماما ما حدث مع مشاهير و شخصيات و حكّام كُثر على مدار التاريخ العربي , الذين بدأوا مسيرة الشهرة بالافعال التي يراها الجمهور صائبة بغض النظر عن صوابها من عدمه , و من ثم رأى الجمهور عدم صوابية منهجهم , لينتقلوا من قمة عدم المساس إلى قاع الانتقاد بطرق شنيعة , و هنا تكمن المشكلة , فكلما اتسعت الرقعة بين الايجاب و السلب كلما كان المجتمع عديم العقلانية و عاطفته غير مدروسة أو مشوّشة .
عدم عقلانية المجتمع تتمثّل أيضا بعدة مناسبات , فمثلا منذ بدء حرب غزة بات الجمهور العربي يستهدف أي تجمّع أو احتفال أو مناسبة أو امسية موسيقيّة أو تجمع عائلي أو صورة لمائدة طعام بحجّة " غزة " و نصرة غزة , وفي ذات الوقت يسارع هذا الجمهور العربي للاحتفال بشتى الطرق بعد أي انتصار كُرويّ للمستديرة ؟ و كأنّ كرة القدم حدث واجب الاحتفال به حتى لو كانت نهاية العالم غدا ! تناقض رهيب لا أسس به ولا معايير ...و لنا أن نتخيّل امسية موسيقية في مدرّج ما تقام لأجل التبرّع برعيها لغزة ؟ ماذا كان سيفعل الشارع العربي ؟ كان سيعلّق المشانق المنتقدة لمن خطّط و نفّذ و ذهب و حضر , في الوقت الذي يرقص بالشارع بنشوى انتصار المستديرة , فماذا نفعت المستديرة المستضعفين ؟ وهنا أنا لا انتقد الحدث الرياضي من اساسه, بل انتقد بالمقارنة المعايير الازدواجية في سلوك الشارع العربي .
هذه الحالة من التأليه لاحداث و شخصيات تجعلنا في اللاوعي نضيع في فهم و تناول الاحداث , في استيعاب جدواها من عدميتها , تماما كما مع حالة طوفان الاقصى أيضا , فالبعض يرى به صافرة البدء لاجتياح غزة قُدّم للاحتلال على طبق من ذهب , بينما البعض الآخر يستميت في رجم من يتناولوه بتحليل منطقي واقعي , حالة التأليه هذه ليست جديدة على الصراع مع اسرائيل و افعالها المنبوذة , ففي الماضي الغابر راحت حالة التأليه لأبعد من ذلك عندما افتعلت وقائع اثناء الحروب " لتخدّر " الجمهور العربي بالانتصار بينما على أرض الواقع كانت النتائج احتلالا اوسع و أشمل لهذا الكيان الغاصب.
إذا في المحصلة ما حصل مع معتز عزايزة من منع لانتقاده إلى تناول سفره من غزة و انتقاده لعيش حياته بشبه سلوك طبيعي , تنمّ عن خلل عميق في غالبية العقول العربية , بالاضافة أنّه بغض النظر عن توجّهاته السياسية و كيف ينظر لحرب غزة منذ البداية هي في النهاية حرّية في الطرح يجب أن تُكفل له كما يجب أن يُشكر على ما قام به تجاه أرضه , فاختلاف البعض مع افعاله لا يجب أيضا أن تنزع عن ما قام به صفة البطولية !.
لغزة الجريحة كل امنيات السلام، ولمعتز و غيره من ابطال هذه المرحلة كل الحب، على أمل أن يعود المواطن الغزيّ لأرضه و لحياته الطبيعية في أقرب وقت ..