وسط الاجواء الاحتجاجية التي تشهدها المنطقة ، والمطالبة بتعديلات دستورية واصلاحات سياسية ، ظهرت اصوات تطالب بالملكية الدستورية على غرار ما هو موجود في النظام السياسي البريطاني ، الذي يعد نظاما برلمانيا يستحوذ فيه حزب الاغلبية على العملية السياسية بشقيها التشريعي والتنفيذي ، وتكون فيه السلطة السياسية الفعلية بيد رئيس الوزراء ، وليست بيد رئيس الدولة الذي لا يتمتع بسلطات سياسية حقيقية . ولكن الى أي مدى يمكن اعتبار هذا النموذج البريطاني ، نموذجا مثاليا يعتد به في ادارة شؤون الدولة ، لدرجة المطالبة بتطبيقه في منطقتنا ، وفي بلد كالأردن بالذات ؟ وهل هو خالي من العيوب والثغرات والانتقادات ليكتسب هذه الصفة المثالية ويصبح نموذجا سياسيا مطلوبا او مفضلا على غيره من النماذج السياسية الاخرى ؟ .
وهل مفهوم الملكية الدستورية واضح ومكتمل ومفهوم بالنسبة للاشخاص او الجهات المطالبة بتطبيقه او تقليده في بلدنا بصورة تجعله خالي من العيوب ايضا ؟ .
يتصف النظام البرلماني باحتكار البرلمان للسلطة السياسية ، فلا توجد هناك سلطة خارج البرلمان ، وهو يقوم على اساس التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ، اذ لا يوجد فصل بين السلطات بل عملية توزيع ادوار بين عناصر السلطة التشريعية نفسها ، طالما ان الحزب الحاصل على اغلبية مقاعد البرلمان هو الذي يشكل الحكومة ، ويسيطر بالتالي كليا على العملية السياسية في البلاد . ما يعني ان دور او مفهوم الرقابة غير موجود من ناحية عملية ، لأن الحكومة القائمة تملك الاغلبية بالضرورة ، ولا تملك الاقلية الا ان تعارض عن طريق مخاطبة الرأي العام . وهنا تبرز اول العيوب في هذا النظام السياسي . فكون السلطة محتكرة من قبل الاغلبية ، فانها قد تلجأ الى اساءة استخدامها من خلال مراعاتها لمصالح الفئات التي تمثلها والقواعد الشعبية والسياسية التي انتخبتها على حساب تجاهل مصالح الاقلية او قمعها ، بحيث تتحول السلطة الى حلبة صراع بين الاغلبية والاقلية ، التي قد تلجأ الى الانتقام في حال وصولها الى الحكم في المستقبل من خلال رعاية مصالح الفئات التي تمثلها فقط . اما العيب الاخر فيظهر في حالة عدم الحصول على اغلبية برلمانية ، حيث يتم اللجوء الى تشكيل حكومات ائتلافية تكون بالعادة هشة وضعيفة ، ما يؤدي الى حالة من عدم الاستقرار وعدم الاستمرارية في السلطة التنفيذية ، والى تمتع الاقليات البرلمانية الحزبية بثقل سياسي يفوق حجمها السياسي الحقيقي . فقد يتم تشكيل مثل هذه الحكومات الائتلافية من قبل احزاب متعددة وغير متجانسة في طروحاتها وبرامجها ، وقد تكون عقائدية ومركزية التنظيم فيصبح من الصعب الاتفاق او التوافق على رؤى او قواسم مشتركة ، طالما ان الاولويات والطروحات متناقضة . وحتى لو تم الاتفاق على قواسم مشتركة من ناحية نظرية ، فان احتمال التصادم مع الواقع عند الدخول في التفاصيل يبقى قائما . الامر الذي يعيق عملية اتخاذ القرار ورسم السياسة العامة للدولة ، ويؤدي الى عدم قدرة النظام السياسي على التكيف والاستجابة مع المتغيرات والتطورات المحيطة ، ما يؤثر سلبا على طبيعته من حيث الثبات والاستقرار والاستمرارية ، وستصاب الحكومات الائتلافية المشكلة بحالة من عدم الاستمرار ، بسبب قصر اعمارها التي قد لا تتجاوز بضعة اشهر . الامر الذي يجعل من امكانية تكوين برامج سياسية والتشريع لها وتطبيقها امرا صعبا للغاية ، وسيؤدي الى تشكيل حكومات هشة ، تكون عرضة للابتزاز السياسي من قبل الاقليات البرلمانية ، وعاجزة عن افراز برامج حكم فاعلة . ما يجعل من احتمال حدوث ازمات سياسية ودستورية في ظل هذا الواقع المعقد والشائك امرا متوقعا.
فاذا كانت بعض الدول الاوروبية العريقة ديمقراطيا ، والتي اخذت بهذا النظام البرلماني وعانت من مثل هذه العيوب والسلبيات كايطاليا مثلا ، قد اضطرت الى التعايش مع هذا الوضع الهش وغير المستقر ، من خلال القبول بتشكيل حكومات ضعيفة اعمارها لم تتجاوز خمسة او ستة اشهر . فان هناك دولا اخرى كفرنسا اضطرت الى تعديل نظامها السياسي البرلماني ، واستبداله بالنظام البرلماني الرئاسي المختلط ، لتلافي عيوب النظام البرلماني والملكية الدستورية . حيث تم الفصل حسب النظام البديل بين تشكيل الحكومة وبين التوزيعات السياسية في البرلمان ، فأصبح تشكيلها مناطا برئيس الجمهورية الذي يتمتع بسلطات سياسية واسعة ، ولا يخضع لاشراف البرلمان . اذ يتم تشكيل الحكومة من خارج مجلس النواب كليا ، بحيث ينحصر دور البرلمان بالرقابة والمحاسبة . فالحكومة المشكلة لا تحتاج الى اغلبية برلمانية لتبقى في الحكم ، بل ان مجلس النواب يحتاج الى اغلبية لاسقاطها . فبينما كان عدم وجود اغلبية برلمانية في النظام البرلماني يؤدي الى تشكيل حكومة ائتلافية والى سرعة الاطاحة بها ، فان عدم وجود اغلبية حسب النظام البديل يؤدي الى العكس ؛ أي الى استقرار الحكومة واستمرارها وصعوبة الاطاحة بالحكومة . وبنفس الوقت فان هذا النظام الفرنسي المختلط فتح المجال بشكل اكبر لتمثيل الاقليات التي كانت محرومة في النظام السابق من التمثيل في الحكومة ، دون ان يحرم الاغلبية من وزنها في الحكم ، والذي تستطيع ممارسته عن طريق حجب الثقة . وساعد هذا الوضع البديل ايضا على تفادي الاخطار التي يمكن ان تنجم عن احتكار الاغلبية للحكم . ولكن هذا لا يمنع من القول باحتمالية او امكانية بروز اغلبية برلمانية قد تتضارب ارادتها وتتعارض مع ارادة رئيس الدولة ، الذي وان كان يتمتع بصلاحيات سياسية واسعة ،الا ان هذه الصلاحيات لا تمكنه من معالجة هذه الاشكالية تحديدا . وفي الوقت الذي عالج فيه الرئيس الفرنسي الاسبق شارل ديغول مثل هذه الازمة السياسية عن طريق الاستقالة ، والرئيس الاسبق فرانسوا ميتران عن طريق الرضوخ لارادة الاغلبية ، فان احتمال وجود رئيس لا يقبل الاستقالة او الرضوخ يبقى احتمالا قائما . ما يؤدي الى ظهور حالة من عدم الاستقرار وربما الشلل السياسي الذي يمكن ان يتسع ويؤدي الى ازمة دستورية وسياسية .
وبالنسبة الى النظام السياسي ( الملكي ) الاردني ، فهو بعيد كل البعد عن الوقوع في مثل هذه الازمات السياسية والدستورية ، المتوقع ان تشهدها الانظمة السياسية العالمية الاخرى كالنظام البرلماني ( بريطانيا ) والنظام البرلماني الرئاسي المختلط ( فرنسا ) . فالدستور الاردني اعطى جلالة الملك جميع الصلاحيات التي يملكها رأس الدولة في النظام البرلماني الرئاسي المختلط ، وكذلك الصلاحية التشريعية ( الفيتو التشريعي ) التي يمتلكها رئيس الدولة في النظام الرئاسي ( الاميركي ) . اضافة الى تمتع الملك بصلاحيات دستورية اخرى لا يتمتع بها رأس الدولة في الانظمة السياسية السابقة ، كتعيين الاعيان والفيتو النهائي على التشريعات الدستورية . اضافة الى ان النظام الملكي الاردني بعيد كل البعد عن النظام البرلماني الذي لا يتمتع فيه رئيس الدولة باية سلطات سياسية فعلية ، لان الرئيس الفعلي للسلطة هو رئيس الوزراء .
وعليه فرغم ان النظام السياسي الاردني هو مزيجا من النظام الرئاسي ( الاميركي ) البحت والنظام السياسي البرلماني الرئاسي المختلط ( الفرنسي ) ، الا انه اقرب الى النظام الفرنسي الذي تتمتع فيه السلطة التشريعية بدور رقابي على اداء الحكومة واعمالها . كذلك فان صلاحية الفيتو التشريعي والفيتو الدستوري التي يتمتع بها راس الدولة في الاردن ، كفيلة بتلافي ظهور سلبيات عدم الاستقرار واشكاليات حدوث ازمات سياسية ودستورية ، ناتجة عن تضارب الارادات السياسية بين راس الدولة من جهة واغلبية برلمانية تريد ان تفرض نفسها من جهة اخرى . كما حدث في فرنسا في عهد كل من ديغول وميتران .
من هنا فان النظام الملكي الاردني ينطوي على اليات ذاتية ( صلاحيات الملك الدستورية ) كفيلة بمعالجة اية اشكاليات سياسية بصورة تلقائية ، ما يجعله يتسم بالثبات والاستقرار والاستمرارية .