أقل مما يجب وأكثر من التوقع
د. نهلا المومني
28-01-2024 12:39 AM
قد يكون هذا هو التعبير الأدق عما يشعر به الكثيرون عقب إصدار محكمة العدل الدولية قرارها باتخاذ طائفة من التدابير المؤقتة التي يتوجب أن يلتزم بها الكيان المحتل في الأراضي الفلسطينية وعلى قطاع غزة تحديدًا.
كان من المؤمل أن يتضمن قرار المحكمة وقف الأعمال العسكرية والعدائية كافة في قطاع غزة؛ ليكون بارقة أمل أكثر تحديدًا تنتشل الأطفال والنساء والرجال وكل من يقيم على أرض القطاع قاطبةً من واقع أصبح أكثر إيلامًا وعجزًا وإحباطًا أمام عقيدة يهودية تحرك آلة الحرب جنوبًا وشمالًا، غربًا وشرقًا دون هوادة.
إنّه الواقع المؤلم الذي أصبح خارج إطار المناقشة أو التوصيف، ولكن في ظل هذا الواقع المشهود حاليًا لنتذكر جميعًا أنّ رحلة النضال ما زالت مستمرة، وستبقى قائمة إلى أجل نسعى لأن يكون مسمّى.
هذه الحرب الآثمة على قطاع غزة منقطعة النظير في ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني لن تكون الأخيرة، وهذا ما يؤكده التاريخ وسلسلة الجرائم الإسرائيلية؛ فالكفاح بالسبل كافة هو رحلة ممتدة وصولًا الى الحق والحقيقة.
هذا المنظور وتلك المعرفة بأن الوصول إلى المبتغى يتطلب عملًا دؤوبًا على الأصعدة كافة كان واضحًا أكثر ما يكون لدى دولة جنوب أفريقيا التي وبعد صدور القرار أشارت من خلال ممثليها الى أنها تعي تماما أنّ رحلة النضال تتطلب عملًا ووقتًا وأن جنوب أفريقيا عاشت تجربةً مماثلةً من الفصل العنصري وما رافقه من أصناف التنكيل والانتهاك إلا أنها وصلت في نهاية المطاف إلى حقوقها المشروعة.
إذًا وقفة مع قرار محكمة العدل الدولية وهذه الأداة الحقوقية التي أصبحت اليوم بيد الشعب الفلسطيني والعربي والعالمي المناصر للحق والحقيقة تنطوي على أهمية لا يتوجب تجاوزها أو العبور عنها دون إدراك أهميتها والتي تتمثل في الآتي:
أولًا: يعدّ القرار سابقة تاريخية دولية في الطلب من الكيان الإسرائيلي المحتل وقف الأعمال التي تؤدي إلى ارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة وفي الوقت إدخال المساعدات بصورة فورية، واستندت المحكمة في ذلك إلى تصريحات صادرة عن مسؤولين في الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها الذين عكسوا الوضع المأساوي والكارثي في القطاع، مما يعني أن هناك شبهات وأدلة قوية وواضحة ساقت المحكمة إلى الاعتقاد بأن جريمةً ترتكب في القطاع وهو الأمر الذي يشكل ضربة قوية للرواية الإسرائيلية التي كرستها عبر سنوات بنائها لهذا الكيان بأنها تستخدم حق الدفاع عن النفس لتبرير أفعالها وأنه هدف للإبادة منذ تأسيسه.
ثانيًا: استندت المحكمة في تأصيلها للقرار الصادر باتخاذ تدابير مؤقتة إلى تصريحات قادة الحرب الإسرائيليين الذين نزعوا الصفة الانسانية عن أهالي قطاع غزة لغايات الدفع نحو ارتكاب أقسى درجات العنف والتنكيل، وهو الأمر الذي دفع بالمحكمة إلى اتخاذ قرار بالطلب من إسرائيل وقف التحريض المباشر على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية والحفاظ على الأدلة، أي أن قادة الاحتلال الآن في موضع الاتهام لحين صدور قرار نهائي في القضية، وهو الأمر الذي يعزز محاكمتهم أيضا أمام المحكمة الجنائية الدولية.
ثالثا: صدر قرار المحكمة باتخاذ التدابير المؤقتة بشبه إجماع من قضاة يمثلون دولا مختلفة، منها دول تساند إسرائيل في حربها على قطاع غزة هو أمر له أبعاد عدة، أبرزها وضوح الأفعال الجرمية التي يرتكبها الكيان المحتل بصورة لا يمكن إنكارها، ومن جانب آخر ما يعكسه هذا المشهد من أن القضاء يبقى ملاذا أساسيا للأفراد والشعوب وأن القضاء يسمو على مصالح الدول الضيقة.
قرار محكمة العدل الدولية يعد سابقة دولية لا يمكن الرجوع عنها، لذا فإن البناء على هذا القرار والاستمرار في حشد الأدلة والعمل القانوني والحقوقي المشترك لإدانة الكيان الصهيوني في المرحلة المقبلة هو ضرورة وعمل يتطلب تكاتف الجهود والمضي قدما رغم الألم والمعاناة، انتصارًا وحماية للأجيال القادمة، فرحلة النضال ما تزال مستمرة.
الغد