قراءة هادئة في قرار لاهاي
عامر طهبوب
26-01-2024 06:22 PM
ديباجة القرار أدان إسرائيل بارتكاب مجازر إبادة، لا أتحدث عن منطوق القرار غير المسبوق الذي انحاز إلى الإنسانية والقانون، وأهمل السياسة، انحاز إلى العدالة، أقول أن التعليلات والسندات التي تلتها القاضية الأميركية جوان إي دونوغو، تدين ضمناً دولة الاحتلال بارتكاب مجازر الإبادة، صحيح أن المحكمة لم تقرر وقف الحرب، وربما لو قررت وقف الحرب، لواجه القرار فيتو أميركي في مجلس الأمن ونام، لكنها أدانت، وكبلت، ووجهت أصابع الاتهام، وهذا من ناحية المبدأ، وفي التفاصيل العديد من المعاني التي أرى أنها تصب في صالح المدعي:
أولاً: إعلان المحكمة بوجود نزاع بين الطرفين؛ المدعي والمدعى عليه، وإقرارها بالاختصاص في النظر في الدعوى المقامة ضد إسرائيل من جانب جنوب إفريقيا، وعدم رد الدعوى، وقبول النظر فيها، يعد نصراً مبدئياً للقضية.
ثانياً: صحيح أن المحكمة لم تتخذ قراراً واضحاً لوقف إطلاق النار، لكن كل مطالبها من إسرائيل، لا يمكن تحقيقها إلا بوقف بإطلاق النار، وقد وضعت إسرائيل في قفص الاتهام بالطلب إليها بتقديم تقرير عن استجابتها على مطالب المحكمة بعدم التعرض الجسدي أو النفسي للمدنيين، أو تهجيرهم، أو تدمير بيوتهم، وإدخال المساعدات، ثم الطلب إليها أن تشارك جنوب إفريقيا في الاطلاع على هذا التقرير لمنح جنوب إفريقيا حق الرد في حضرة المحكمة.
ثالثاً: المحكمة أدركت، واستشهدت، واستندت إلى تصريحات أممية وإسرائيلية، تدين إسرائيل. قالت الرئيسة جوان أن المحكمة أخذت بالاعتبار تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة الذي حذر من خطاب الكراهية ضد الفلسطينيين، وإحاطته لمجلس الأمن التي تفيد أن منظومة الصحة في غزة تنهار، وعدم توفر أساسيات الحياة، وأن الوضع يائس، وأن المنظومة البشرية في خطر، وأن الوضع يتدهور بشكل كارثي، وأن مستويات الموت مقلقة، وتصريحات مبعوثه للشرق الأوسط مارتن غريفيث في الخامس من يناير أن غزة تحولت إلى مكان للموت واليأس، وتصريحات مدير وكالة الغوث فيليب لازاريني في الحادي والعشرين من ديسمبر الماضي أن 63 بالمائة من سكان غزة يواجهون المجاعة، وتصريحه يوم الثالث عشر من يناير الحالي أن جيلاً كاملاً من أطفال غزة مروعون، يُتّموا، ولا يجدون قوت يومهم، وكل هذه التصريحات الأممية، تشي بارتكاب مجازر إبادة، ستأخذ بها المحكمة بالضرورة عند النظر في جوهر الدعوى.
رابعاً: أن تأخذ المحكمة بما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي بالنص الحرفي: سنجعل غزة بلا ماء، ولا كهرباء، ولا وقود، وأن تأخذ بتصريح نتنياهو برفع كل القيود في القتال، وأننا - أي إسرائيل - سوف نقضي على كل شئ، وأخذها بقول إسحاق هيرتزوغ أن أهل غزة من المدنيين يتحملون المسؤولية لأنهم لم يثورا على حماس، وقوله: سوف نقاتل حتى نكسر ظهورهم، وتصريح وزير الطاقة الإسرائيلي الذي أخذت به المحكمة أن كل المدنيين في غزة لن يحصلوا على قطرة ماء، ولا بطانية، حتى يغادروا، كل ذلك جاء في ديباجة قرار باتخاذ إجراءات احترازية، وجدت المحكمة أن تتخذها لأنها رأت أن هناك رابطاً بين الحقوق التي طالبت فيها جنوب إفريقيا في اتخاذ إجراءات احترازية من باب الإلحاح والاستعجال بسبب المخاطر، رأت المحكمة أن الجماعة الفلسطينية التي ينتسب إليها أهل غزة في خطر محدق من ضرر على الحقوق.
خامساً: المحكمة أخذت بإثباتات وجود انتهاكات قائمة لحماية الحقوق، وحق حصول الفلسطينيين من خطر الإبادة، وحق جنوب إفريقيا في السعي قانونياً لاتخاذ إجراءات احترازية تمنع إسرائيل من ارتكاب جرائم الإبادة، والقرارات التي اتخذتها المحكمة بالإجماع في مجملها، لا يمكن لإسرائيل الوفاء بها دون وقف إطلاق النار، ومن وجهة نظري أن المحكمة بذلك انحازت إلى القانون بالمطلق، ولم تسيس القضية بأي صورة من الصور.
سادساً: بالإضافة إلى إقرار المحكمة بالاختصاص في النظر في الدعوى، وقبول الدعوى، واتخاذ الإجراءات الاحترازية إلى حين البت في جوهر القضية، فإن تهمة النية والقصد بارتكاب إسرائيل جرائم الإبادة، أصبح ثابتاً في فقه المحكمة، وإلا لرفضت الدعوى من أساسها بسبب افتقاد السند القانوني الذي يثبت توفر النية، وهذا يعني أن النقاش بين قضاة المحكمة سينصب الآن حول تفاصيل ستدين إسرائيل في النهاية بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وليس الجزئية، وهذا يؤكد صلابة الدفوع التي قدمتها جنوب إفريقيا.
سابعاً: المحكمة قررت أنه ليس لدى إسرائيل الحق في رفض الدعوى، وهذه إدانة ضمنية، وأقرت المحكمة حقها في ممارسة سلطاتها في القضية، وحق الشعب الفلسطيني كمجموعة عرقية في الحماية، وذكرت بالأرقام أعداد الضحايا: خمسة وعشرون ألف وسبعمائة، و63 ألف مصاب، وأشارت إلى دمار شامل، وهجرة قسرية، وكل ذلك ينضوي تحت الإبادة الجماعية بالمفهوم القانوني الفقهي المنصوص عليه في محكمة العدل الدولية.
ثامناً: إسرائيل متهمة الآن قانونياً، ولأول مرة في تاريخها كمجرمة حرب، أصبحت بموجب القانون الدولي متهمة، ولديها قضية مرفوعة ومقبولة لدى المحكمة العالمية، وسيُنظر فيها في ضوء ما مضى، وفي ضوء ما انقضى، وما سيأتي، وفي ضوء استجابتها أو تنكرها لسيادة المحكمة، والأهم أن قبول المحكمة بالدعوى، وإقرار إجراءات احترازية، يفتح الأبواب للفلسطينيين لرفع قضايا في محكمة الجنايات الدولية ضد السياسي والعسكري في دولة الاحتلال، وضد كل من ارتكب جرائم إبادة، وتدمير مربعات سكنية، أو ارتكب إعدامات ميدانية، والقائمة هنا طويلة ممتدة.
لم تتخذ إسرائيل قط في عدوانها على غزة، أي إجراء احتياطي، احترازي، وقائي، تحوطي، للحفاظ على أرواح المدنيين، بل استهدفتهم بشكل مباشر ومقصود منذ الساعة الأولى، وجاء يوم الحساب والمساءلة في محكمة تم تأسيسها بدافع ملاحقة النازيين على جرائمهم ضد اليهود الذين فعلوا بالفلسطيني ما فعل بهم هتلر وأصحابه، والفعل على أرض غزة يؤكد القصد والنية، وهي الآن تحت نظر محكمة العدل الدولية وملاحقتها، ومحاكمتها، وصمة عار على جبين كل من شارك في هذا العدوان، ووصمة عار على من قدم العون والدعم لدولة الاحتلال.
نعم، لم تصدر المحكمة قراراً بوقف إطلاق النار، لكن إجراءاتها الاحترازية ستلجم إسرائيل، وإذا لم توقف عدوانها، فإن أي جريمة سترتكبها منذ لحظة صدور قرار المحكمة، سيعزز من إدانتها، ومن تجريمها على المستوي الدولي بعدم التزامها واحترامها لأعراف دولية لم تحترمها يوماً، ولكن الأمر اختلف بعد صدور قرار محكمة العدل الدولية. نعم كان السقف الذي تتطلع إليه الشعوب الحرة أعلى، كانت الشعوب تطمح إلى قرار بوقف الحرب، لكن لا يجب التقليل من قيمة الإجراءات، ولا من منجز قبول الدعوى والبت في جوهرها، والذي أعتقد أنه سيدين إسرائيل بارتكاب جرائم الإبادة، وإجماع القضاة يشير إلى انحيازهم للقانون.
ومرة أخرى شكراً لجنوب إفريقيا، لرئيسها سيريل رامافوزا، ولوزيرة الخارجية والتعاون الدولي ناليري باندور التي حرصت على حضور الجلسة، ولوزير العدل رونالد لامولا، والفريق القانوني: جون دوغارد، وأديلا أسيم، وتمبيكا نجكو كايتوبي، وماكس دو بليسيس، وتشيديسو راموغالي، وسارة جونز، وليرانو زيكالالا، وفوغان لوري، وبليني غرالايغ، وشكراً للدول التي دعمت القضية، ووقفت إلى جانب جنوب إفريقيا، وفي مقدمتها الأردن الحبيب.