ما بعد الحداثة .. صراع الدولة كمفهوم وتطبيق
رومان حداد
25-01-2024 12:19 AM
قال الرئيس الأرجنتيني المنتخب حديثاً، خافيير ميلي، في مؤتمر دافوس الأخير جملة لا يمكن المرور عليها دون التوقف وإعادة قراءتها مراراً وتكراراً، ففي خطابه أمام المؤتمر قال ميلي «الدولة ليست الحل أو حتى المشكلة، إنها العدو الذي تجب هزيمته»، هذه الجملة تعني أن هناك توجهاً ليبرالياً شرساً تجاه الدولة كمفهوم ودور وآليات عمل.
فالدولة كمفهوم تواجه اليوم تحديات عدة على المستوى العالمي تهدد وجودها، فهي كائن حداثي، أي ولدت في ظل عصر الحداثة، واليوم ونحن نعبر البرزخ نحو عصر ما بعد الحداثة، بكل ما يحمل من قيم وأخلاقيات وأدوات تراكم رأس المال، وتبدو الدولة كديناصور يعيش في بيئة لا تحميه ولا تمكنه من البقاء.
وفي مؤشر آخر، قد لا يراه كثيرون أنه ذو أهمية، فإن قرار المحكمة الأوروبية بالسماح بإطلاق دوري السوبر الأوروبي يعتبر قراراً مهماً في هذا الإطار، فالمحكمة سمحت لكيانات رياضية دون الدولة بتشكيل منظومة جديدة فوق الدولة، دون أن تستطيع الدول الأوروبية منع ذلك.
وفق التعريف التقليدي للدولة فإنها تتكون من ثلاثة عناصر هي العنصر البشري (الشعب) والعنصر الجغرافي (الأرض) والعنصر المعنوي (السيادة)، وقد تعرضت هذه العناصر الثلاثة لتحديات كبيرة خلال نصف القرن الماضي، وهذه التحديات مرشحة للتوسع، ما يجعل الدولة تحت ضغوط غير مسبوقة، قد تؤدي لظهور أشكال جديدة للتنظيم البشري، كاستجابة للتحديات الجديدة.
فمهوم السيادة تعرض لتدخلات عديدة في مختلف الدول، بسبب الضغوط الإقليمية والدولية على الدول، وهو ما خفف من منسوب سيادة الدول، سواء بسبب الاتفاقيات الدولية أو الظروف الاقتصادية أو التدخلات الدولية الإنسانية وغير الإنسانية.
وواجهت الدولة، كمفهوم، تحديات عديدة فيما يتعلق بانتماء الشعوب لإقليمها الجغرافي، فلم تعد الدولة هي المصدر الوحيد لاقتصاد الأفراد، حيث جاءت العولمة لتخلق فرصاً كبرى للأفراد لتحصيل دخولهم، ومع الثورة الرقمية، زادت قدرة الفرد على تحصيل الدخل بعيداً عن حكومة الدولة، فلم يعد الفرد مرتبطاً بالدولة لتحصيل معيشته.
ولم تعد الجغرافيا محدداً إلزامياً للتفاعل مع المحيط بالنسبة للفرد، حيث خلقت الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي فضاءً تفاعلياً جديداً للأفراد، وأعطت كثيرين صوتاً مسموعاً لم تكن الدولة بمفهومها التقليدي تعطيه إياهم.
فظهرت مجتمعات ذات قيم وأخلاقيات وثقافات عابرة للحدود الجغرافية وغير خاضعة لسيادة الدولة بالمفهوم التقليدي، وصار الانتماء للفكرة وليس للجغرافيا، وهو ما اضطر العديد من الدول للتعامل بخشونة مع فضاء الحريات والأفكار الجديد، في محاولة للحد من تأثير هذا الانفتاح على بنية المجتمع التقليدي.
الصراع القادم للدول سيكون مع شركات ضخمة، ترى أن الدولة تشكل عائقاً أمامها، وستحاول فرض وقائع جديدة، وصدامات على عدة مستويات، مع تغيير تدريجي متسارع في اصطفافات الأفراد بعيداً عن الدولة، وهو ما يعني أن الاقتصاد والمال هما أدوات الصراع الجديد.
التحديات الكبرى في منطقتنا هي أن الدول التي تنتمي لهذه المنطقة هي دول تقليدية، غير قادرة على التواؤم مع التغييرات المتسارعة، وهو ما يخلق حالة من الصدامات المتكررة بين الأفراد ومنظومة الدولة، في ظل تحديات اقتصادية غير مسبوقة بسبب الظروف الاقتصادية والبطالة، مما يوجب التفكير العميق والاستراتيجي لمواجهة التحديات القادمة، وتقديم إجابات على الأسئلة التي سيتم طرحها، خصوصاً من جيل (Z)، الذي سيكون له تأثير كبير على عملية تشكيل المستقبل.
الدول القادرة على التأقلم مع التغيرات الكبيرة هي التي ستكون قادرة على مواجهة التحديات الجديدة والاستمرار، وإن بأشكال مختلفة ما بعد حداثية، أما تلك التي ترى ضرورة التمسك بأدوات الماضي فإنها ستواجه تحديات من خلال الاصطدامات المستمرة بين الأفراد والدولة قد تهدد وجودها ذاته.
"الرأي"