شكل الاقطاع بمفهومه التجاري صورة من صور أنانية الانسان، فمنذ الاقطاع الزراعي الذي تمتلكه فئة قليلة من المجتمع مشكلة في طبيعة الإنتاجية ومداراتها الديكتاتورية التي كانت تتحكم بالعمال الفقراء لفلاحة الأرض بوصفهم عبيدا عند الاقطاعي، والاقطاع استحواذ غير مستحق على حساب فئة عريضة من المجتمع.
وتطور مفهوم الاقطاع من زراعي إلى الاقطاع التقني، حيث تستحوذ الدول الكبرى على التقانة العسكرية والاقتصادية والإدارية لتتحكم بالدول المتخلفة عن تلك المخرجات الإنسانية الخلاقة، بل بنيت التقانة على مجموعة من الاسرار لها علمائها وجواسيسها بكنها تدر دخلا هائلا للدول المصدرة للتقانة، بحدود ما تسمح به الدول الكبرى من صادراتها لتلك التقانة، وأكبر مثال على ذلك الصراع الخفي على التقانة بين أمريكا والصين.
فعلا سبيل المثال بدأ العالم الآن يتحدث بسرعة هائلة عن الذكاء الاصطناعي الذي كانت هواجسه قد بدأت في العام 1956 حيث أسس المجال الحديث لبحوث الذكاء الاصطناعي في مؤتمر في حرم كلية دارتموث في صيف عام 1956. وأصبح الحضور قادة بحوث الذكاء الاصطناعي لعدة عقود، وخاصة جون مكارثي ومارفن مينسكاي، ألين نويل وهربرت سيمون الذي أسس مختبرات للذكاء الاصطناعي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وجامعة كارنيغي ميلون (CMU) وستانفورد، هم وتلاميذهم كتبوا برامج أدهشت معظم الناس. وبحلول منتصف الستينيات أصبحت تلك البحوث تمول بسخاء من وزارة الدفاع الأمريكية. وهؤلاء الباحثون قاموا بمجموعة من التوقعات حيث ستكون الآلات قادرة، في غضون عشرين عاما، على القيام بأي عمل يمكن أن يقوم به الإنسان.
تشكل عملية تبادل المعلومات الرقمية من خلال شبكات البيانات، قلب النشاط الاقتصادي والاجتماعي في نمط الانتاج الرأسمالي الرقمي. لتصبح البيانات أهم سلعة في العالم المعاصر، بكون شبكة الويب العالمية هي البنية الأساسية للاقتصاد الرقمي. والتي تسهم بشكل أساسي في كل عمليات الخدمات والتداول وتطوير الفعل الإداري عبر استخدام تلك الشبكات إلى جانب اختصارات الفعل الزمني والسرعة في الحصول على المعلومة، وقد شكلت الرقمنة محورا أساسيا في تغيير المنافسة وتوزيع القيمة المضافة بشكل أساسي. فنحن بحاجة ملحة على مراكز دراسات مستقلة تبحث في تطوير التقانة في شتى المجالات حتى لا نصبح أسيري الدول المنتجة لها، وهذا يتطلب معرفة دقيقة للبنية التحتية والجوانب الأيديولوجية والتقنية للرأسمالية الرقمية وأشكالها الاقتصادية السائدة من خلال إعمال الجانب الابتكاري وإطلاق الخيال الخلاق في هذا المجال المعاصر من باب اللحاق بركب الأمم المتطورة، فهي السياق الناجع في عمليات الإنتاج الجديدة وخلق ظروف مواتية لها، مع استمرار الآليات الرأسمالية الأساسية في المستقبل للرأسمالية الرقمية.
كالعمل المأجور، والأرباح، والملكية الخاصة، تلك التطورات السريعة تحتاج إلى رأب الصدع بيننا وبين العالم بعيدا عن التفاوت الشديد بيننا وبينهم، فنحن الآن امام سباق مرير في احتكار تلك الاسرار وتحولاتها الاقطاعية التي تذهب للسيطرة على العالم كوحدة استهلاكية فقط، لذلك فإن تأثر البلدان الناشئة والنامية سيكون بدرجة أكبر بآثار الرقمنة من البلدان الصناعية نفسها. فوفقاً لتقديرات البنك الدولي، يمكن أن تتعرض حوالي 70 في المئة من محطات العمل للتهديد من خلال الرقمنة في دول مثل الهند والصين على سبيل المثال، كما تطرح الاحتكارات الرقمية العملاقة إشكاليات أخطر من مجرد سوق العمل، حيث ستؤدي إلى تحولات جيوسياسية جذرية. حيث يسير تراكم القوة الاقتصادية جنباً إلى جنب مع التأثير السياسي، ويبدو أن ذلك الوصف الذي أطلقه الاقتصادي الفرنسي، المتخصص في التكنولوجيا، سيدريك دوراند، على الرأسمالية الرقمية من كونها "إقطاعية تقنية" قائمة على الريع والافتراس والسيطرة السياسية للشركات متعددة الجنسية، فنحن أمام اقطاعية تحتمل طبيعة قيادة شعوب الأرض وافتراس مقدراتها من خلال لذة الانقياد لتلك المنظومة.
فاذا اختبرنا بصورة سريعة مخرجات البحث العلمي في الجامعات الأردنية ندرك مباشرة طبيعة تعطلها من حيث ما رصد للبحث وطبيعة التوجه نفسه ناهيك عن تجفيف مراكز الدراسات العلمية التي من الممكن ان تسهم في حل المعضلات الاقتصادية والتربوية على حد سواء، فعلا سبيل المثال لم يشتمل المنهاج التربوي على تقانة الذكاء الاصطناعي كخطة استباقية للمستقبل الجديد.