يقول بيتهوفن في الموسيقى " هي الوسيط بين الحياتين الروحية و الحسيّة " إذ هي أكثر الهاما من جميع الحِكم و الفلسفة.
احيانا كثيرة نتأمّل في عناصر الموسيقى ، كيف بدأ الانسان هذه الرحلة العجيبة من الصفر ، كيف ترجم احساسه بالكلمات ثم ابتكر اللحن ثم تدرج نحو تكوين الآلة لتتمازج الكلمة على سكة النغمة بقيادة الآلة !
الموسيقى عالم بديع أوجده الانسان حرفيا من العدم أو حتى شبه العدم ، ففب الطبيعة ما يقودنا نحوها .. من تغريد العصافير التي تلهم لألف معزوفة ، أو دقائق قُرب نهرٍ جارٍ نستطيع السفر على جناح السلام في حضرة الهدير ، فالكون كلّه عنوانه الموسيقى.
كنتاج لرحلة الانسان مع الموسيقى تكوّنت ثقافات عديدة و امتازت ملامح الشعوب ، فهل نستطيع فصل فيروز عن لبنان؟ أو تغييب الاردن عن مسيرة سميرة توفيق؟ أو أم كلثوم عن مصر؟ و منْ مِنّا لا يتذكر السعودية مع محمد عبده؟ و سوريا كلما أطل صباح فخري؟ و الجزائر كلما قالت وردة " اسمعوني " ، و هل يغيب العراق عن نغمات سعدون جابر؟ و ذكرى عن تونس؟ و العديد العديد ممن حملوا الاوطان و البلدان على اكتافهم؟
لذلك تبنى الموسيقى صورة بديعة عن الأوطان بالتوازي مع غيرها من الانجازات تماما كتلك التي تحدث في الشارع و البُنيان .
في افريقيا الموسيقى لها وقع خاص ، ففي بعض القبائل هناك , الرقصات الشعبية هي فلكلور يعبّر عن كل قبيلة و يرسم صورة مبهجة عنوانها الفرح و أحيانا الحُزن ، و بها يتنفسون و ينفّسون عن احساسهم و اوجاعهم , عند تصفح أيّ موقع بحثي و التعمق في التاريخ العربي ، نجد أن الموسيقى تكاد أن تكون الشريحة الوحيدة التي لم تجلب الويلات للشعوب العربية ، فلا هزائم بها ولا انكسارات ، لم نسمع يوما عن معركة راح بها قتلى سببها النغمات ، بل على العكس قد تجهل بعض شعوب العالم بلداننا و تضاريسها و لغاتنا و تعرفنا من رموزنا الفنّية الجميلة ، فكم من رموز موسيقية ناصعة كُرِّمتْ في مشارق الأرض و مغاربها؟ و صدرت للعالم صورة حضارية عن وطننا العربي ...
من غير شك ، كما قد نجد رجال دين يخونون الأمانة ، و موظفون فاسدون ، و عمّال لا يراعون المهنية ، قد نجد في الموسيقى ما هو دون المستوى ، و لكن هل نستطيع التعميم؟ هل نستطيع اعتماد الطفرات و تشويه صورة كاملة فقط بسبب بقعة صغيرة من الحبر في زاوية ورقة بيضاء ؟ هل نمحي التاريخ بسبب هزيمة , أو نهدم مدرسة لوجود قاعة صفيّة بلا إنارة ؟ لذلك ففي الموسيقى ما قد يشوّهها لكنّه بالتأكيد ليس الاصل و معيار التقييم أو حجة للهدم و الرجم العدمي أبدا .
في الحاضر العربي عرفت الاوطان تجمّعات موسيقيّة مهمّة , كمهرجان جرش و بعلبك و قرطاج و تدمر و تيمقاد و غيرها الكثير , و اقامت دور أوبرا كثيرة كتلك التي في القاهرة و الكويت و الامارات و سوريا امسيات فنية أصبحت أرشيفا هامّا في المكتبة الموسيقية العربية , لتأتي الرياض الآن و تقتحم أروقة الموسيقى العربية من أوسع ابوابه في مواسم رياضها المدهشة , فموسم الرياض بات علامة فارقة في الانفتاح السعودي , من تنظيم و تحضير و تنفيذ على أعلى المستويات , أصبحت الرياض به و معه نقطة الجمع العربية .
استقبل الشعب السعودي هذا التحوّل بتقبّل كبير , فهذا الشعب المتذوّق لطالما سافر إلى مشارق الارض و مغاربها للاستمتاع بالموسيقى الصافية, لذلك يحقّ له الفرح الآن , فكما اسلفت , الموسيقى تروي قلوب الشعوب و تُغني العقول و تجعل الليونة مسلكها , و هي بالتأكيد ترسم صورة عن الاوطان ...فمقولة " يعرف مدى تطوّر الأوطان من مستوى الموسيقى بها " هي تقريبا حقيقة و واقع , فبالتوازي مع نهضة الاوطان ستنهض الموسيقى بها , خطّان متوازيان يتقاطعان في الغالب و يسند كل منهما الآخر.
مستوى الابداع في الرياض لا يقلّ أبدا عن عواصم العالم الاخرى , و بالرغم أنّها أشرقت مؤخرا في مضمار الموسيقى إلّا أنّها استطاعت أن تضع وليدها مكتملا ناضجا ليجذب منذ خطواته الاولى الاعين و العقول و يتصدّر المشهد و العناوين , فمن حقنا كوطن عربي أن نسعى جاهدين لنرسم صورة مشرقة عنه في كل المحافل , ليس طلبا لرضى العالم بقدر ما هو اثبات أنّنا نستطيع و نملك من الامكانيات و الافكار و المواهب و العقول ما توازي أو حتى تتفوق على الغير , نحن الشرق الذي بدأ بنا و معنا الحرف , نحن زرياب و جبران و المتنبّي نحن امرؤ القيس و عنترة , نحن الشِعر العتيد و الحُب الفريد .
للفرح دائما اعداء تماما ككارهي الشعور الانساني البريء و ترجماته المختلفة , هم الذين يفضّلون العدمية على التطوير و يسعون نحو الخراب عوضا عن نشر السعادة , سيبقون دائما في الجبهة التي تناهض الفرح , الذين في الخفية يهرولون إلى كل ما يهاجمونه في العلن , فيرقصون في الظل و يستمتعون بالنغمات , أما تحت الضوء فيعلّقون المشانق لكل مطوّر و محدّث , هؤلاء يغتالون الاوطان بدءًا من نشيدها الوطني الذي يجيّش المسامع بموسيقاه انتهاءً بالعقول ,,,فلا التفات لهم يجب أن يتم ما دامت نهضة الاوطان هي عنوان المرحلة .
نهضة السعودية و العصر الجديد الذي تعيشه سوف يجذب لها السيّاح من مشارق الارض و مغاربها ، أسوة بباقي الدول العربية ، و لأنّها تسير على تخطيط عقلاني منطقي ، تعي الرياض بأنّ المستقبل قد لا يكون الاعتماد به كليا على مدخول النفط و مشتقاته ، فتنويع سلّتها الانتاجية واجب وطني يحتم عليها السعي لتحقيقه في شتى المجالات ، و في النهاية يجب أن تأتي اللحظة التي نتسواى بها مع المفرزات العالمية أو نتفوّق عليها ، نحن العرب الذين قد نبني القيود في العقول نحتاج لبعض الرموز الحالية لكسرها و المضي قدما نحو التطوير.