لا تحوّلوا وائل الدحدوح إلى "أيقونة"
د. موسى برهومة
23-01-2024 11:27 AM
حسناً فعل وائل الدحدوح بانتقاله إلى قطر من أجل العلاج. ربما فرض واقعه المَرضي هذا الارتحال، لكنّه ارتحال مؤقّت، وفرصة ثمينة كي يتخلّص الصحفيّ الأبرز في تغطية أحداث الحرب على غزة، من عبء التوقّعات، ومن ثقل الرموز التي علّقت كالصليب في عنقه، فأثخنت جراحه، وزادت مكابداته، من حيث ظنّ الجمهور أنهم يكافئونه ويرفعونه إلى مصافّ الآلهة.
هو ليس إلهاً، ولا يصبو أن يكون. هو مجرد صحفيّ قُدّر له أن يغطي وقائع نازفة، ولم يكن أحد يتوقّع أن يصبح ناقلُ آلام الضحايا هو الضحية التي لا تجد من ينقل مأساتها، فيلتبس الأمر على الرجل، فيندفع بقوة التصوّرات والتوقعات إلى إغلاق جراحه، بلا مخدّر، والانتقال إلى البث المباشر.
ربما تشكّلت في لاوعي وائل أن يغدو أسطورة، لا بسبب نرجسيّة فائضة في نفسه، ولكن لأنّ شعبه يكتب تلك الأساطير وما انفكّ، فلا أقلّ، كما يقول وائل ربما لنفسه، أن أرفد هذا الصعود العظيم إلى سدرة الأسطورة، ففي الملاحم الكبرى في التاريخ يعلو الفرد على نزيفه، ويلتحم بالنشيد الجمعي نحو الحرية والانعتاق والنصر، وذلك، ربما، ما فكّر به وائل دون أن يعيه أو يدركه على نحو فلسفيّ محكَم.
بيْد أنّ هذا السلوك لا يتعيّن له أن يغدو طبيعة أو شأناً صحيّاً أو نمطاً، لأنه يَضمر، أوّل ما يضمر، كبتاً هائلاً للمشاعر؛ فالشخص الذي يتعرّض لهذا الضغط النفسيّ القهّار يتعالى على ألمه المرة تلو الأخرى، بحيث يصبح الصراخ أو التعبير عن الألم والانكسار سلوكاً يرقى إلى المنقصة، فيقمعه الشخص، ما يضاعف من الكبت الذي لا يجد سبيلاً للتنفيس عنه.
ومما يضمره هذا السلوك، أيضاً، أنه يسعى إلى تخليق "أيقونة" قد لا يرغبها الشخص الواقع تحت ضغط الصورة الشديد. هو يطمع في أن يكون إنساناً طبيعيّاً يحزن ويألم ويضحك ويفرح ويتبعثر، ثم يلملم شظاياه وينهض، كدأب الكائنات الآدميّة كلّها، وينفض عن كاهليه الأسى والتعب.
"الأيقَنَة" في حالة وائل الدحدوح فُرضت عليه فرضاً فارتضاها مرغماً، ومع الوقت أضحى السلوك الخارق للعادة وكأنه عادة: يُقصف منزله جنوب غزة، وتُستشهد زوجة الدحدوح وابنه وابنته وحفيده الرضيع، فيطلق زفرة الألم العميق المعطوف على قهر حارق؛ "معلش"، لتتحوّل هذه الكلمة إلى نقش ورمز يمنحان الأيقونة أفقاً رحباً من الحضور والتأويل.
ثم في موقف آخر يُقصف وزميلَه المصوّر في "الجزيرة" سامر أبو دقة، في خانيونس، فيموت الأخير ببطء لأنّ قوات الاحتلال أرادت ذلك فمنعت المسعفين والناس من مساعدته فنزف حتى شهق أنفاسه الأخيرة، وكلّ ذلك أمام أنظار وائل الذي أصيب في ساعده الأيمن، وظل يسأل عن رفيقه الذي يصارع الحياة، وهو ممدّد على سرير في مشفى يفتقر لأدنى مقوّمات الشفاء. ورغم الآلام النفسيّة والجسديّة الغائرة، خرج وائل إلى البث الحيّ معصوب الساعد، وكظم غيظه، ولم يبدُ على صوته أي أثر يشير إلى التشفّي أو الرغبة في الانتقام، أي أنه حافظ على سويته المهنيّة ونزاهته الصحفيّة في ظرف لا يقوى عليه إلا من أريد له أن يغدو أسطورة، فكم من النزف يجب أن ينسفك كي تتواصل هذه الأسطَرة المرعبة؟
وكانت أشدَّ اللحظات تراجيديّة حين قصف الاحتلال سيارة الصحفييْن حمزة وائل الدحدوح ومصطفى ثريا. ولما بلغ النبأ وائلَ الدحدوح باستشهاد نجله الأكبر ونقلته الكاميرا بدا هذا الطود الشامخ باسلاً رغم الدموع الشحيحة التي لم يشأ أن يسفحها مدرارةً، كيلا يخدش صورة التمثال الذي نقشته التوقّعات عن وائل؛ الصحفيّ الذي من لحم ودم، ومن مشاعر، ومن غضب، ومن رغبة في كسر الإطار، والتمرّد على الصورة، قبل أن يغدو وائل نبأً عاجلاً في نشرة الأخبار، فتكتمل حلقة المأساة!
حسناً جرى أن انتقل وائل الدحدوح إلى قطر من أجل العلاج. إنه قرار في الوقت المناسب، لا لكي يتعالج من آلام ساعده وجسده، وحسب، بل كي يبرأ من الصورة التي رُسمت له، ومن أحجار التمثال التي شيّده له المحبّون الراغبون في خلق (أو تصنيع) الفلسطينيّ الذي لا يُقهر.
على فترة النقاهة أن تخلّص وائل الدحدوح من أوهام التصوّرات البريئة حسنة النيّة، وعلى وائل أن يعي جيداً أنه كإنسان طبيعيّ يبكي ويضحك ويتألم، خيرٌ من إنسان متعالٍ ذي تطلّعات إلهيّة.