لم يشهد الكيان الإسرائيلي منذ قيامه على أرض فلسطين عام 1948 تفسخاً، وانشقاقاً، وشقاقاً، وتفككاً، كما يحدث هذه الأيام، كشفت غزة فشل الكيان في إقامة مجتمع يهودي متماسك، وفشل قادة إسرائيل في بناء علاقة صادقة مع التجمعات الاستيطانية المختلفة، لا مصداقية ولا موثوقية لحكام إسرائيل لدى العدو والصديق والحليف على السواء، حكومات كاذبة متعاقبة، منافقة، وعنجهية، متطرفة، وعنصرية، ملأت قلوب الإسرائيليين بالحقد على الفلسطيني، وملأت أفعالها المشينة المجرمة، قلوب أهل فلسطين بالحقد على كل ما هو إسرائيلي، وهذا من ناحية المبدأ.
حكومة الحرب الإسرائيلية جبانة بلا شك، لا تتحلى بأدنى درجات الشجاعة للاعتراف بالهزيمة، والتصرف بعقلانية في مواجهة غير مسبوقة خسرت فيها يوم السابع من أكتوبر، ودفعها الغضب والرغبة في الانتقام، وعدم استيعاب الضربة الموجعة، إلى عدوان غير مسبوق على قطاع غزة، وعلى الرغم من سعة الدمار، وكثرة الضحايا بين المدنيين، إلا أن جيش الاحتلال خسر على أرض غزة خسارة غير مسبوقة في نزالاته مع المقاومة الفلسطينية، وكلما يخسر، كلما أصر على مواصلة الحرب باحثاً عن معجزة يحقق من خلالها نصراً.
لا أحد في حكومة الحرب الإسرائيلية يعترف بالحقيقة، أو يمتلك الاستعداد لقول الحقيقة، قولها لنفسه، ولحليفه الأميركي، ولأهالي المحتجزين في غزة، والحقيقة قالها الجنرال الإسرائيلي آيزنكوت على شاشة محطة تلفزيونية إسرائيلية، أن لا فرصة لتحرير الأسرى إلا باتفاق مع حركة حماس، ونتنياهو في ورطة تتسع وتتعمق منذ يوم الثامن من أكتوبر الماضي، ولكنها وصلت هذه الأيام إلى خواتيمها، نتنياهو يحتضر، خياراته ضيقة، قدرته على المناورة ضعفت، المساحة قلّت، ولم يبق من يدعمه سوى زوجته سارة، ووزير المالية سموتريتش، ووزير الأمن القومي بن غفير، وغيرهما من يمين عنصري مقيت، ومرفوض على كل الصعد الإسرائيلية، وحتى الدولية.
ليس أمام بنيامين نتنياهو سوى الاعتراف بالهزيمة، النزول عن السلم، التوقف اليوم أفضل من مواصلة التوغل، جيشه يخوض الآن حرب استنزاف في غزة، وحرب إنهاك قوى، وكسر إرادة، وترهل أفراده، وخسائر في الأرواح والمعدات، وفشل في تحقيق هدفين متناقضين لا يستويان، القضاء على المقاومة، واستعادة أسرى إذا عادوا لأهليهم في توابيت، سيواجه نتنياهو وحكومته المحكمة والسجن.
مائة وعشرة أيام لم تعلم النسناس نتنياهو شيئاً، لم تستطع طائراته، وقاذفاته، ودبابته، وجرافاته، ونخبه، وكلابه، ومسيراته، أن تتغلب بكل تفوقها العسكري والعددي على المقاومة، المحتجزون ما زالوا في ضيافة القسام، والقسام ما زال في الميدان، يوقع الخسائر في صفوف الجيش الغازي كل صباح وكل مساء، دون أن يحقق هذا الجيش منجزاً سوى قتل الأطفال والنساء، وتدمير المربعات السكنية، وإطلاق الضحكات على فعل الدمار والإجرام، وهذه ليست حرباً، إنها مجازر ضد الإنسانية، ومحاولة تطهير عرقي باستخدام كل الوسائل الطاردة للحياة بما فيها التجويع والتعطيش.
أنظروا الفارق بين هذا وذاك، سكان مستوطنات يقيمون في فنادق ومنتجعات، رافضين العودة إلى غلاف غزة إلا بعد أن تتوقف الحرب، وربما ينتظرون كلمة طمأنة من "أبو عبيدة" من أجل العودة، لأن لا أحد فيهم يثق بقادته السياسيين والعسكريين على السواء. قارنوا بين هؤلاء الذين لا ينتمون للأرض، وأهل غزة الذين يعودون للعيش فوق ركام بيوتهم، علهم يقيمون خيمة بالجوار، أو يستصلحون غرفة سلمت من الدمار، وعلى أي حال، فالحرب لم تنته بعد، وإنما بدأت هذه الأيام، والخسائر في صفوف جيش المحتل ستتضاعف، أهل غزة ومقاومتها لم يعد لديهم ما يخسرونه، لا يخافون على شئ إلا على أرضهم ووجودهم، ومن لا يخشى على روحه، عليك أن تخشى بأسه.