متسلق جبال يكتشف بعجة .. كنز العصور الحجرية
عبدالرحيم العرجان
22-01-2024 11:42 AM
بعجة قرية الإنسان الأول المتوارية بين أحضان جبال الشراة شمال البتراء، وكنز العصر الحجري بخبيئة جميلة والثمينة، يعود الفضل الأول بالكشف وإماطة اللثام عنها لرحالة وعاشق تسلق غفلت عن اسمه المراجع .
لم يمنعنا برد مربعانية الشتاء من الخروج لما نعشق ونهوى فكان خيارنا مسار إستثنائي أثار فضولنا بالبحث وتفرده التاريخي لموقع أعلن عن اكتشافه حديثا وغير مفاهيم كثيرة بما احتواه عن حياة الإنسان الأول بالعصر الحجري وأسلوب حياته ومعتقداته قبل 9000 عام.
البداية من الهيشة ..
كان الإنطلاق من أعالي الهيشة بوابة البيضاء النبطية إلا أن الضباب كان يستر مدى الرؤيا مطوقا كامل معالم الجبال وما توارى من بطم وعرعر وما تجاوز أضعاف أعمارنا من الأشجار، للسير وفق درب رسم إلكترونياً بحنكة قائد المسار بشكل محاذي لمجرى السيل الموسمي الجريان متتبعين فيه بعض الخطائط و دروب رعاة الماشية.
مصن الرعاة ..
كان الأثر الأول للدرب وهو "المصن" وهو بناء حجري يقام إستكمالا لتجاويف طبيعية بالصخر من قبل الرعاة لحفظ الطعام أو بعض الأدوات أو الإيواء للراحة واشتق الإسم من أصل مصان لتوفيره نوعا من الأمن والحماية بجانب بعض العقود المهجورة، تلاه عددا من القنوات لجر مياه الأمطار لتصب في سدود الحصاد المائي بين القباب الصخرية والشقوق استخدم ببنائها حجارة مشذبة قديما ومن غير المستبعد أن أصولها يعود لفترات سابقة أعاد أبناء عصرنا توظيفها لخدمة وسقاية الماشية بعد تثبيت الحجارة بالإسمنت، لتتوالى بعدها المقاطع والعوائق عبر السيق المحتاجة لمهارة بسيطة باستخدام الحبال والتعلق وتعاون الفريق لاجتيازها مرورا بين ما تشابك من نباتات.
بعجة ..
وصلنا للقرية التاريخية المستوطنة المنيعة التي يعتقد أنها من أوائل التجمعات البشرية بالشرق الأوسط، لنبدأ بدخولها صعودا من الطريق الغربي المحصور بين كتفي الطور والممتدة بمساحة عشر دونمات بحضن الجبل الوردي الأمر الذي أثار تساءلنا لماذا اختار الإنسان الأول هذا المكان المنيع وكيف اهتدى إليه بين بطون الجبل وهل هذه المنعة للحماية من كواسر الحيوانات التي كانت منتشرة بكثافة بذلك الوقت أم للعزلة عن أقرانة ؟!.
الجميل بقصة اكتشاف بعجة المشتق إسمها من المكان إن أول من وصل إليها رحالة ومتسلق جبال، فأثار اهتمام بما جلب من وصف وصور باحث الآثار الألماني هانزي جيفن الذي سارع بزيارتها للبحث في خباياها، والتنقيب والكشف عن العديد من البيوت المتلاصقة الصغيرة المبنية من الحجر ومنها ما كان متعدد الطبقات واحتوت أرضياتها على قبور ومدافن قد يعزى السبب لتعلقهم بالميت أو بمحدودية المكان، إلى أن اهتدى جيفن ورفاقة إلى الكنز الدفين "عقد جميلة" 2018م.
عقد جميلة ..
توصلت التنقيبات لقبر طفلة منفرد هشة العظام ترتدي عقد متعدد الحلقات كثير الخرز والخامات احتاج لعناية كبيرة من الباحثتين هلا الرشي وماريون بنز اللواتي بذلتا عناية فائقة باستخراجه بدقة ونقله إلى جامعة برلين الحرة لترميمه بعد تنظيفه من الأكاسيد وأثر الرطوبة وتقوية حلقتة الرئيسية على دعامة وإعادته إلى رواق متحف البتراء عام 2021م ليكون أيقونة فريدة من تاريخ ذلك العصر، وهذا تأكيد كبير على مدى العلاقة والثقة بين المملكة الأردنية الهاشمية وجمهورية ألمانيا الإتحادية.
جميلة هو الإسم الإعتباري الذي أطلق على مرتدية العقد كما جرت العادة لافتراض الإسم لعدم وجود كتابة وعلى ما يبدو أنها ابنة ذات شأن في أسرتها فحلقته الرئيسية مصنوعة من الصدف البحري الغير متوفر هناك آنذاك ومحاطة بسبع أدوار رئيسية من الخرز الرملي المصقول بعناية، وهنا أيضا تساءل آخر هل له علاقة بتكرار المعتقد سبعة؟، ومن الممكن أن يتم إعادة إحياء نسخ منه لتكون تذكارا لزوار البتراء والمكان لمدى أهميته وجماله "فهو أيقونة تاريخية بكل معنى الكلمة ".
وأشارت تنقيبات الفريق أن أهل القرية بلغ تعدادهم ما يقارب من 500 شخص زرعوا البقوليات والبازيلاء واستخدموا أدوات الطحن والهرس لتحضير طعامهم اليومي، وتحتاج لمواسم أخرى من البحث والتنقيب.
استكملنا طريقنا دون ترك أثر في المكان آخذين منه أجمل الصور كذكرى عبر السيق السفلي الضيق المتعدد الألوان مابين الأحمر ودرجات الكرميدي والأصفر، مجتازين صخور ولولبيات صقلتها مياه الشتاء احتاجت لمهارة بكيفية التعلق والإجتياز ويد العون من جميع أعضاء الفريق عابرين من أسفل صخور معلقة حشرت بجنبي الشق، إلى أن بلغنا نهايته حين لاحت لنا على كتفيّه قنوات مياة نبطية محفورة تصب في معاصر وخزانات أعادت الطبيعة الحياة بظهور نباتات في مجراها المهجور، لنتمم هناك 7 كم بنجاح.
وهذه التجربة تحتاج إلى تسليط الضوء عليها لتوضيح بمدى أهمية دور هواة المسير والتراحال ومتسلقين الجبال والباحثين في الطبيعة فقد يهتدوا لمكان فريد مثل بعجة يكشف لنا تاريخاً دفينا أو يسلطوا الضوء على موقع جيولوجي كشق العجوز الفريد بالمنطقة والشبيه بشق إنتيلوب بالولايات المتحدة الأمريكية الذي يقصده مئات الآلاف من الزوار سنويا أو لتوثيق نبات نادر الوجود وغير مسجل بالأبحاث العلمية ،فهم السائرون بالأرض بحنكة وشغف دون أن يغيب دورهم، وأيضاً بمدى أهمية التراث والحفاظ عليه وتوظيف تصاميم شبيه بعقد جميلة العربية الأردنية الأصل ليكون بمثابة حرفة ومنتج تذكاري لزائرين البتراء، وتأهيل مسار للقرية بعناية دون المساس بجمال طبيعتة أو باستخدام مواد دخيلة في بنائه .