أسقطت غزة سردية الردع الإسرائيلي، أسقطتها بالكامل، لم يعد الكيان يردع أحداً في المنطقة، أسقطت غزة قدرة جيش الاحتلال على حسم المعارك؛ ثلاثة أشهر ونصف من العدوان دون تحقيق الأهداف المعلنة في القضاء على مقاومة مدينة، أو تحرير الرهائن، أو تدمير شبكة الأشباح، أو تهجير السكان، وغيرت غزة مفاهيم النصر، ثم غيرت مفاهيم الأثمان، فالثمن الذي دفعه الاحتلال من دماء جنوده، يعد عالياً من وجهة نظر المحتل، فالجنود الذي يسقطون في غزة، يمارسون أعمال القتل، لا القتال من أجل الدفاع عن أرضهم، فيما الثمن الذي دفعه أهل غزة من دمار مدينتهم، واستشهاد 25 ألفاً، وجرح 62 ألفاً، وفقدان سبعة آلاف تحت الأنقاض، وعذابات الاعتقال والتنكيل، ثمن رخيص من أجل تحقيق هدف سام، هو الدفاع عن الأرض، وحماية العرض، ونيل الحقوق في الحرية والعدالة والاستقلال، ومن هنا انفتق شعار أهل غزة في مخاطبة السماء: "بيستاهل الله".
ليس هذا فقط، بل غيرت غزة طرائق القتال، وأساليب النزال، وفنون الحرب، وقواعد المواجهة، حيدت التكنولوجيا المتقدمة، وعظمت قيمة البدائية في مقارعة المتطور، والمصنع محلياً في مواجهة المستورد، أسقطت فكرة الأسطورة، وميزة التفوق العسكري، عززت قيمة الحقيقة، وأعادت غزة نموذج نضالات "الفيتغونغ" في شبكة أنفاق تحاكي أنفاق "كوتشي"، وأفخاخ الأغبياء، ومصائد الحمقى، وجعلت من "الياسين" سلاحاً كفؤاً فتاكاً في استهداف دبابة تم تسويقها على مدى عقود طويلة بأنها "لا تقهر".
وليس هذا فقط، فضائل غزة كثيرة، كشفت للعالم عن الوجه الحقيقي البشع للمشروع الصهيوني، وعن وحشية جيش الاحتلال، وقادته، ونواياهم، وضعت إسرائيل المحتلة برمتها في قفص اتهام محكمة العدل الدولية في سابقة لم تظن يوماً أنها ستواجهها، وفي سابقة وقعت اليوم في دافوس، أن ينظر المدعي العام السويسري في شكوى جنائية، تتهم الرئيس الإسرائيلي إسحق هيرتزوغ الذي يشارك في أعمال دافوس، بارتكاب مجازر ضد الإنسانية، والشاهد على الدعوى تصريحاته العنصرية الحاقدة، وتوقيعه في غلاف غزة بخط يده على قذائف قاتلة، صوبها الجيش الغازي ضد المدنيين في غزة.
وبالطبع، فكما وصفت إسرائيل الجلسة الأولى في لاهاي بأنها تشكل أكبر نفاقاً في التاريخ، وأنها هي الضحية، وأن العالم انقلب رأساً على عقب، فقد رأى مكتب الرئيس الإسرائيلي أن الشكوى التي قدمتها مجموعة قانونية في سويسرا، جاءت بدافع الدعاية ضد سمعة إسرائيل، والمجموعة الحقوقية، قدمت للمدعين الفيدراليين، وسلطات بازل وبيرن وزيورخ، طلباً بنزع الحصانة عن الرئيس الإسرائيلي والتحفظ عليه، تمهيداً لمحاكمته، وأن القانون الدولي يسمح برفع الحصانة في حالات الجرائم ضد الإنسانية والإبادة، وقد يغادر هيرتزوغ مهرولاً هارباً إلى تل أبيب قبل صدور قرار الادعاء العام السويسري، وفي كل الظروف، فإن تلك سوابق تجعل إسرائيل من أبرز أصحاب السوابق السوداء على الساحة الدولية.
غزة غيرت وجه العالم، قلبت الموازين، أربكت الكبار، وأعادت اتجاهات الرياح، والساعات الرملية، والشمسية، والتقويمات القمرية، والموج يعلو، والقصف لا يتوقف، وشباك الصيادين تغزو البحر، تصارع البقاء، يحمل الصياد شباكه، ويتوجه إلى البحر تحت قصف المدافع، يستشهد أو يصطاد سمكة.
عامر طهبوب