العدالة في مواجهة النفوذ: الصراع في غزة وتحولات السياسة الدولية
د. فراس الجحاوشة
17-01-2024 05:11 PM
الصراع الدائر في غزة منذ أكتوبر الماضي، أحيا القضية الفلسطينية على المستوى العالمي، مسلطًا الضوء على السياسة الإسرائيلية المُتّهمة بالعنصرية والاستيطان. هذه الحرب، وصفت بأنها جرح مفتوح للفلسطينيين، تسببت في دمار واسع بغزة وخسائر فادحة في الأرواح.
من جهة أخرى، أسفر الصراع عن خسائر بشرية ومادية لإسرائيل أيضًا، مع تأثيره العميق على الحالة الأمنية والاقتصادية في البلاد. الحرب أدت إلى نزوح عشرات الآلاف من الإسرائيليين، ما يُظهر تأثيرها الملموس على الحياة اليومية.
عربيًا، برزت تباينات في المواقف. بعض الدول قامت بالضغط على إسرائيل بشكل مباشر مثل الاردن والبعض اكتفى بالتعاطف الضمني تجاه المجازر، فيما واجهت إسرائيل هجمات من جهات مختلفة، بما في ذلك حزب الله وأنصار الله الحوثيين. هذه الأحداث زادت من التوتر الإقليمي وأثرت على الاقتصاد العالمي.
على الصعيد الدولي، كانت هناك تموضعات متباينة. الولايات المتحدة دعمت إسرائيل، بينما أبدت الصين وروسيا مواقف مغايرة. في أوروبا، أثارت الحرب احتجاجات واسعة، ما يُظهر الانقسام بين الحكومات وشعوبها.
لقد شهدت الساحة الدولية تطوراً ملحوظاً في الأسبوع الماضي مع بدء محكمة العدل الدولية في لاهاي مداولاتها بشأن دعوى رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، تتهمها فيها بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة. هذه القضية، والتي تأتي كنتيجة لأفعال القوات الإسرائيلية في الأشهر الأخيرة، تعتبر نادرة خصوصًا فيما يتعلق بإسرائيل، التي غالبًا ما تكون محمية من قبل الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، سواء عسكريًا أو سياسيًا.
منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن، شهد العالم العديد من الأفعال التي يمكن اعتبارها جرائم إبادة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية، مثل احتلال الأراضي، وإجبار السكان الأصليين على الرحيل، ومصادرة منازلهم، وفرض سياسات ثقافية وسياسية تستهدف هويتهم الثقافية، وغيرها من الاعتداءات المتواصلة. وقد ساهمت هذه الأفعال في تشكيل الأساس لاتهامات بالسعي لإبادة الشعب الفلسطيني.
تاريخيًا، كان الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، متواطئًا في هذه الجرائم، مستخدمًا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لمنع صدور قرارات تدين إسرائيل أو تضع حدًا لأفعالها. وعلى الرغم من صدور قرارات دولية مثل القرارين 242 و 338، إلا أن السياسات الغربية حالت دون تطبيقها بشكل فعال، مما سمح باستمرار الاحتلال والجرائم ضد الفلسطينيين. وفي ظل هذا الواقع، اتخذت الولايات المتحدة موقفًا استباقيًا لمنع صدور قرارات دولية مماثلة، مما عزز من حماية إسرائيل من العزلة الدولية والضغوط السياسية.
هذا النقاش يدور حول ثلاثة محاور رئيسية: الدور الأمريكي في السياسة الدولية، الموقف العام الدولي تجاه القضية الفلسطينية، والنضال الفلسطيني نفسه. هذه المحاور تجسد مسار الأزمة الفلسطينية وتعكس عجز العالم عن اتخاذ خطوات فعالة لتحقيق الأمن والسلام الدوليين. واحدة من النقاط الرئيسية هي عدم وجود آليات تنفيذية فعالة لدى المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، ما يجعل تنفيذ القرارات يعتمد بشكل كبير على الدعم العسكري الغربي.
على الصعيد العربي، ظهرت حركة "أنصار الله" في اليمن كقوة داعمة لفلسطين، مستهدفةً البواخر التي تنقل بضائع لإسرائيل ومتحديةً بذلك النفوذ الأمريكي والغربي.
في هذا السياق، يبرز دور جنوب أفريقيا في تقديم القضية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية كخطوة شجاعة وفريدة من نوعها. هذه الخطوة تعكس تجربة جنوب أفريقيا في مكافحة العنصرية وتظهر التزاما بالعدالة الدولية والدفاع عن حقوق الإنسان. ومن خلال تقديمها للقضية، تحاول جنوب أفريقيا تحريك الضمير العالمي وإحداث تغيير في الموقف الدولي تجاه القضية الفلسطينية.
ومع ذلك، يظل السؤال قائمًا حول ما إذا كانت الجهود الدولية ستؤدي إلى تحقيق العدالة الفعلية أم ستواجه بتواطؤ غربي لمنع نجاحها. إذ تبقى المخاوف من أن القضية ليست مجرد محاكمة لإسرائيل فحسب، بل أيضًا لداعميها الرئيسيين، خاصة الولايات المتحدة وبريطانيا. يثير هذا الواقع تساؤلات حول استقلالية وفاعلية النظام القانوني الدولي وقدرته على مواجهة النفوذ السياسي والعسكري الكبير.
في هذا السياق، يُبرز الدور الأمريكي تحديات كبيرة، حيث يعكس التوسع الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية والسيطرة النسبية التي مارستها واشنطن على السياسة الدولية. هذه الهيمنة تطرح تساؤلات حول ما إذا كانت تصب في مصلحة العدالة والأمن العالميين أم تخدم أجندات خاصة.
أما بالنسبة للنضال الفلسطيني، فإنه يبقى مثالاً حياً على الكفاح من أجل الحقوق والعدالة، ويعكس مقاومة مستمرة ضد الظلم والاحتلال. الحقيقة المرة هي أن الدعم الدولي للقضية الفلسطينية غالبًا ما يتأثر بالمصالح السياسية والعسكرية، خاصة تلك الخاصة بالغرب.
في النهاية، يبقى الأمل في أن تُشكّل هذه القضية نقطة تحول في الرأي العام الدولي وأن تؤدي إلى تغييرات ملموسة في السياسات الدولية. على الرغم من التحديات الكبيرة، يُظهر التاريخ أن الضغط المستمر والنضال من أجل العدالة يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تغييرات إيجابية. يُعد التزام جنوب أفريقيا بمواجهة العنصرية ودعمها للقضية الفلسطينية مثالاً على أن الدول الفردية يمكن أن تلعب دوراً محورياً في تحدي التوازنات السياسية القائمة وتعزيز القضايا العادلة على المستوى العالمي.