هذه سابقة تاريخية، أن تقف دولة متمردة على كافة قرارات الامم المتحدة والقوانين الدولية في قفص الاتهام، أمام محكمة العدل الدولية وهي أعلى هيئة قضائية أممية ، بتهمة ارتكاب عمليات ابادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ، خلال الحرب المجنونة التي تشنها اسرائيل منذ أكثر من مئة يوم ، قتلت خلالها نحو 24 ألف شخص غالبيتهم من الاطفال والنساء وكبار السن وجرح أكثر من 60 ألف آخرين ، وتسببت بنزوح نجو مليوني شخص وتلاحقهم بالقصف اينما ذهبوا ، بهدف اجبارهم قسرا على اللجوء الى خارج وطنهم ، بالاضافة الى التدمير الممنهج لكل مقومات الحياة والتسبب بانتشار الاوبئة والامراض المختلفة !..
محاكمة لاهاي لا تستهدف الكيان الصهيوني فقط، بل تشكل أيضا فضيحة لجميع الدول الغربية التي توفر الحماية السياسية والدبلوماسية ، وتقدم الدعم العسكري والاقتصادي لهذه الدولة المارقة ، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الاميركية والدول الاوروبية ، التي توافد زعماؤها على عاجل لزيارة تل أبيب ، للاعلان عن تضامنهم معها بعد عملية طوفان الاقصى في يوم 7 أكتوبر من العام الماضي .
لقد بدى التمايز واضحا بين المرافعة القانونية الرائعة التي قدمها امام المحكمة فريق المحامين ،الذي مثل دولة حنوب افريقيا وكانت مدعمة بالأدلة القاطعة ، بينما كانت مرافعة الفريق القانوني الاسرائيلي ركيكة ومرتبكة وضعيفة ،استندت الى المزاعم والأكاذيب التي يتحدث بها قادة الكيان في تبريرهم للحرب على غزة .
التيومن الجير الاشارة الى أن جنوب افريقيا التي قدمت الدعوى بكل شجاعة ضد اسرائيل، عانى شعبها مرارة سياسة التمييز العنصري "الأبارتيد" لعقود طويلة ، حيث كانت الأقليات الاستيطانية الأوروبية هي التي تحكم البلاد ، وخلال تلك الفترة طورت اسرائيل وجنوب افريقيا تحالفا عسكريا وثيقا شمل التعاون في مجال الاسلحة النووية ، الى أن انتصرت حركة النضال الذي قادها المؤتمر الوطني الافريقي برئاسة نيلسون مانديلا ، ونتج عن ذلك الغاء نظام التمييز العنصري في بداية تسعينات القرن الماضي، ثم انتخاب المناضل الرمز نيلسون مانديلا رئيسا للدولة عام 1994، وبحكم العامل المشترك الذي يربط الجانبين أقامت جنوب افريقيا بعد ذلك علاقات دبلوماسية كاملة مع فلسطين ، مقابل ذلك تدهورت العلاقات مع اسرائيل تدريجيا .
هذه ليست المرة الاولى التي تنظر فيها محكمة العدل الدولية بقضية تتعلق بالصراع الفلسطيني الصهيوني ، فقد سبق أن عرضت قضية جدار الفصل العنصري على المحكمة عام 2004 ،وقررت المحكمة في شهر تموز من ذلك العام بأغلبية 14 صوتا ومعارضة القاضي الأمريكي ، "أن الجدار مخالف للقانون الدولي "، وطالبت اسرائيل بازالته من كل الأراضي الفلسطينية بما في ذلك القدس الشرقية وضواحيها، وتعويض المتضررين من بناء الجدار ، كما طالبت دول العالم بعدم الاعتراف بالوضع غير القانوني الناجم عن الجدار ،ودعت الجمعية العامة ومجلس الأمن الى النظر في أية اجراءات أخرى لأنهاء الوضع غير القانوني للجدار ، لكن قرار المحكمة استشاري بهذه القضية ، ولأن اسرائيل تعتبر نفسها فوق القانون بحماية ودعم اميركي وغربي ، لم يحدث شيء وبقي الجدار قائما !.
وفي تهمة الابادة الجماعية المعروضة على محكمة العدل الدولية ،لا يستبعد أن يتعرض بعض القضاة لضغوط سياسية من قبل الدول التي يمثلونها ، لكن بغض النظر عن القرار الذي ستتخذه المحكمة ، سواء كان ايجايبا أم سلبيا فان مجرد وقوف دولة الاحتلال في قفص الاتهام ، أمام أهم محفل قضائي دولي يعتبر انجازا مهما ، وعزز من حضور القضية الفلسطينية والمظلومية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني منذ اكثر من 76 عاما ، في الرأي العام الدولي وعلى أجندة السياسات الدولية ..
فشكرا لجنوب افريقيا صاحبة المبادرة الأخلاقية والسياسية التاريخية ..
"الرأي"