أواخر عام 1989، وبعد قرار الملك الراحل الحسين بن طلال استئناف الحياة البرلمانية الديمقراطية في الأردن بعد توقفها منذ عام 67، وبعد رفع الأحكام العرفية وقانون الطوارئ، خاض الإخوان المسلمون الانتخابات بحملات انتخابية واسعة ومنظمة جدا في كل أنحاء المملكة، بشعار فريد من نوعه وقتها أتخموا به كل زاوية وشارع وعمود إنارة في الأردن، كان نصه: (العودة إلى الإسلام).
وبعد اكتساح الإخوان المسلمين في الانتخابات، وفوزهم بأغلبية مقاعد مجلس النواب وتسيّدهم للمشهد السياسي في انتصار واضح المعالم بانتخابات كانت فعلا نزيهة بإجراءاتها، أتذكر كيف جمع الملك الراحل أركان الدولة - بمن فيهم قيادات التيار الإسلامي المكتسح - في قصره الملكي، وألقى كلمة بثها التلفزيون الأردني حيث تحدث الملك بهدوئه الشديد وصوته الجهوري العميق وقال (أنا ضد العودة إلى الإسلام) مما فاجأ الحاضرين، إلى أن أكمل حديثه بقوله (أنا مع التقدم إلى الإسلام، فالإسلام ليس في الخلف حتى نعود له، بل هو يتقدمنا).
على كل حجم صوفية وإيمانية الملك الراحل، ويقيني بأنه براغماتي معتق بالخبرة والحكمة، إلا أن ما فعله ببساطة كان تفريغ الشعار من محتواه، ومن ثم تفريغ الإخوان من شعارهم!!
ثم، وفي "ضربة معلم" أنهت جولة المناكفات بين النظام والتيار الإسلامي، وجه الملك الراحل إلى رئيس وزرائه المرحوم مضر بدران أن تكون حكومته برلمانية بمعنى أن يراعي في تشكيلها ضم الأغلبية الإسلامية، ليصبح الإخوان شركاء في الحكم إلى حد ما طبعا.
وشهدنا بأنفسنا أيامها، صقور الإخوان الذين كانوا يطالبون بالشريعة الإسلامية حلا لمؤسسات الدولة وقد باتوا جزءا من الحكم، وحملوا الحقائب، وصاروا أصحاب معالي، ولغة خالية من التهديد والشعارات الثورية الغاضبة.
لم يعد الإخوان ينادون - منذ التقاطة الملك حسين الذكية- بالعودة إلى الإسلام، لقد أدركوا مأزق التورط في برنامج عمل حقيقي!! فتمت فضفضة المفهوم والشعار ليصير واسعا جدا ونصه الذي اعتمدوه فيما بعد صار (الإسلام هو الحل)!! هكذا.. ببساطة وتسطيح وبدون برامج حكم وإدارة واقعية، هو الحل!
وفعليا، فالتيار الإسلامي في الأردن - كما في كل العالم- أكبر من حزب، وما الحزبية إلا أداة من أدواته العديدة والمتعددة للهيمنة والوصول إلى السلطة وتحقيق برنامجه "الأيديولوجي" الذي لا يخرج عن معالم طريق عرابه الفكري سيد قطب.
تيار الإخوان المسلمين العالمي لم يعد جماعات بائسة وفقيرة تعمل تحت الأرض، هو اليوم واحد من أكبر "الأخويات" الأيديولوجية في العالم، ويستحوذ على ثروات هائلة وظفها في خلق وإنتاج أدوات تواصل وهيمنة وتأثير واستقطاب، لا في العالم العربي وحسب، بل في العالم كله، منطلقا من رؤيته الأساسية بأنهم "هم وحدهم" مستخلفون على الأرض باسم الله.
واليوم، ومع مفترق طرق مفصلي جديد يواجه الإقليم، يجد التيار "الإخواني" فرصته في ممارسة ركوب الأمواج التي يتقنها بتراكم الخبرات، فيعلو الصوت بالشعارات الضخمة "الصوتية" المزاودة، وعمليات التعليب القائمة على "فسطاطين" إما معنا أو ضدنا، والتحدث "بصوت مرتفع وضجيج أكثر ارتفاعا" باسم المقاومة في غزة على الساحة الأردنية "المجتمعة أصلا" على دعم قطاع غزة وإدانة العدوان الإسرائيلي الاحتلالي بمجمله.
بصراحة، لا أفهم أين يرى رموز التيار "الصارخ دوما" مكمن الخلل في موقف الدولة الأردنية الرسمي وقد مارست التصعيد السياسي إلى أقصى حد ممكن، بل إلى أقصى حدود توظيف الأدوات والمواقف لصالح القضية الفلسطينية وغزة تحديدا، حدود لها كلفتها السياسية التي نحسب لها ونتحسب.
الغد