في الأصل ، أن للدولة موازنة واحدة ، فمبدأ (وحدة الموازنة) هو أول المبادئ الأساسية للموازنة ، وسيظل يدافع عنه عالم التخطيط والموازنة (ارون وليدافسكي ) حتى وفاته ، وهو ما تكرسه في العالم العربي كتب الدكتور فيصل مرار والدكتور ميلاد منصور يونس ، وكلاهما يعتبر مرجعا معتبرا في هذا الحقل.
وتبعا لهذا المبدأ ، فإن كل دينار من إيرادات الدولة او نفقاتها يجب أن يخضع لقانون الموازنة العامة وتديره جهة واحدة ، تكون مسؤولة أمام الجهات الرقابية وعلى رأسها البرلمان ، وغاية ذلك ضبط المالية العمومية وبلوغ اقصى درجات الرشد في الانفاق ، تبعا للاحتياجات العامة وأولوياتها ، ومنعا للهدر والعشوائية والتبذير ، ورفعا لمستوى تحصيل الإيرادات ، وسد كل الثغرات في وجه التهرب الضريبي ، وتسهيل إجراءات المتابعة والرقابة والمحاسبة القبليّة والبعديّة في كل هياكل الدولة ، حيث لم تعد هذه الإجراءات عمليات تفتيشية موسمية او تسلطية ، بل هي عمليات تجري بصورة طبيعية ومستمرة ، ويجب ان لا تتسبب بأية إعاقات لسير أعمال مرافق الدولة ، بل يجب ان تزيد من كفائتها وفاعليتها.
ولا نعرف بشكل محدد ، عن أية تجارب لدول أخرى خرجت عن مبدأ وحدة الموازنة ، وربما يكون الوضع في الأردن قد استدعى في السنوات الأخيرة ، الخروج عن هذا المبدأ ، حيث أصبح يتم الاعلان عن قانونين للموازنة العامة ، احدهما للدولة والثاني لما يسمى الوحدات المستقلة ، غير أن هذا الإجراء يبعث على التساؤل حول ضروراته وجدواه وسنده الدستوري ، ومن المنطقي بناء عليه كسابقة ، ان تصبح هناك موازنة ثالثة أو أكثر ، طالما انه بات ممكنا الاخلال بمبدأ وحدة ووحدانية الموازنة العمومية ، مع كل ما يترتب على ذلك من نتائج قد تتسبب في تشتيت الأدوار وربما تعارضها وتناقضها وتنازع الاختصاصات ، وفي الأصول ، ان وظيفة الحكومة المركزية هي رعاية وخدمة المصالح العمومية للدولة ، ويجب ان لا يمنعها اي مانع عن القيام بوظيفتها ، سواء تعلق الامر في مؤسسات القطاع العام او القطاع الخاص او القطاعات المختلطة ، واحدث الأمثلة على ذلك هو اضطرار الحكومة الامريكية للتدخل وتحمل الاعباء الكبيرة لإنقاذ مؤسسات القطاع الخاص على اثر الازمة المالية العالمية ، ولم تعفها من واجبات وظيفتها في خدمة الصالح العام ، كل أدبيات الخصخصة واللامركزية والتحرر الاقتصادي ، التي كانت في أوج انتشارها.
وقد بات واضحا في السنوات الاخيرة التي شهدت وتشهد كل ما هو غير متوقع من أزمات ونكبات وحروب وكوارث وجوائح ، ان كل الأدبيات التي سخرت للتشكيك بمفاهيم الدولة ووظائف الحكومة المركزية والقطاع العمومي ، اصبحت على المحك وتستدعي المراجعة وإعادة النظر ، خاصة في ما يسمى الدول النامية وتحديدا دول الشرق الأوسط ، فليس من المبالغة الاستنتاج بأن الفناء هو البديل المحتمل عن قوة الدولة وحكومتها المركزية.