برهة من الزمن نسفت كل ما كان في خاطري وأمامَ ناظري، نسف كل ما تعلمته وقرأته في كتب السياسه والتاريخ والاجتماع وغيرها بعد ما شاهدت وما زلت اشاهد واسمع ولم استوعب حتى اللحظة هذا المسلسل الاجرامي في إزهاق الارواح البشرية في قطاع غزة ، هذا الإجرام المستمر منذ اكثر من ثلاثة اشهر ، لم اجد كلمات او مفردات في اللغة العربية لوصف الواقع المرير والوضع المخزي الإنساني الذي استهجته وتستهجنه كل الشعوب الحرة، منذ الوهلة الأولى أحسست أن الوضع مجرد مسلسل درامي وسينتهي وتتوقف ومشاهده الدامية الحزينة المرعبة واحداثه الوحشية الاجرامية ، ولكن بعد مضي هذه الفترة واستمرار هذه الحرب الوحشية ادركت أنها حقيقة مرة ومؤلمة وقاسية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
بدأت تتلقفني هواجس الايام الأولى واتذكر اللحظات التي عشتها، بمتابعة احداث ووقائع الحرب الظالمة القاسية التي تدور في تلك القطعة الأرضية من فلسطين الأبية الشامخة الصامدة في قطاع غزة المحاصرة في ارضها وسمائها.
وهاهو هاجس قلمي يتلقف ويسطر واقعه صرخة غزة الفلسطينيه التي يشاهدها ويسمعها العالم الصامت الأعمى الأصم الذليل المتخاذل المتهاون المتقاعس ،المكبل بالقيود ومعصوب الابصار، امام جريمة إنسانية متكاملة الأركان ومجازر وإبادة وتدمير وتهجير، وكارثة سيخلدها التاريخ.
والذي لا يدع مجالا للشك والريبه هو أنّ غزة تقفُ اليوم عزيزة بكبريائها صامدة بشموخها ،ثابته مترابطة مقاومتها، متسلحه بإيمانها وثقتها بربها جل وعلا، متمسكه بارضها ومدافعة عن عرضها وعزتها وكرامتها، في سبيل وقف الغزو الصهيوني الغاشم وطرد المستعمر المحتل ونيل حريتها واستقلالها.
وبما أنني لا أعلم إن كنتُ الوحيد في العالم يشاهد ويسمع هذه المناظر البشعه والاجرام الوحشي، والذي هو بمثابة الجحيم في نظر الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى مما جعل يدور في ذهني بعض الاسئلة :
هل هذا الإجرام والمجازر والابادة الجماعيه والتدمير والتهجير في غزة هو باعتماد وتوافق العالم العربي والإسلامي والدولي؟.
هل غزة تستحق هذا الإجرام المستمر منذ اكثر من ثلاثة اشهر؟.
أي جحيم هذا الذي يحدث بصمت دولي ولأول مرة في العصر الحديث ؟.
أي خزي وعار هذا للمؤسسات والمنظمات الدوليه لحقوق الإنسان والحريات؟.
ما هو ذنب الأطفال والنساء حتى يمثل بهم ليصبحوا اشلاء جسديه ويحرقوا ويعذبوا ويشردوا ؟.
ماذا بعد هذا الإجرام المستمر والمجازر البشريه وعمليات التهجير الممنهج؟.
متى سيفيق الضمير العالمي والعربي والإسلامي من سباته لنصرة المظلومين المستضعفين؟.
بعد كل هذه الاسئله المريره بدأت تراودني الظنون، وبدأ الشكُّ يأخذُ حيّزًا من تفكيري ، وفيها احتار عقلي بل وعجز قلمي في لحظة ضعف ان يسطر ما يجول بخاطري ، فلا اعلم هل هي غفوه قلم، أم هي استراحة محارب وصحوة قلب وضمير ، فصرت بين وطأة اختناق ورعشة يد، ولكن الموقف يقينا أخف إيلاما من قنبلة موقوتة أو مدفعا أو صاروخا يدمر مدينة بأكملها وينسفها نسفا، ويشطب كل معالم ومقومات الحياة من عليها.
دارت معركة في رأسي الأمر الذي أدى إلى صعوبة ما تخيلته ورأيته وسمعته ، والذي يجعل من الواقع مجرد أحلاما ليس إلا .
فنحن ننسج اوهاما وليس احلاما تتحقق، اصبحنا نعجز عن فعل أي شىء أمامَ أنفسنا، واصبحنا عاجزين عن التعبير عن مشاعرنا التي تجول في قلوبنا وخواطرنا .
وأنا اسمع اصوات الاطفال من تحت الركام بدأ يخفق قلبي ألما ووجعا وينزف دما، ويحذوني الأمل لعلهم يخرجون من تحتِ الركامِ أحياء معافين.
ولكن تأتي جهينه بالخبر المؤلم لتعلن خروجهم امواتا شهداء، بعد ما صارعوا الموت بالساعات وقاسوا مرارة العيش تحت الركام، وتقطعت اجسادهم اشلاء، بعد ما ولدوا وعاشوا في الحصار لاكثر من سبعة عشر عاما أتاهم الموت من تحت الدمار ،واختطف العدو سعادتهم واغتصب أعمارهم.
في حين أن الخنساء الفلسطينيه وسط الانقاض وبرودة الشتاء القارس، والجوع المدقع تحاول البحث عن اطفالها من بين الانقاض، وتحت الركام لعلها تجد أحدا منهم على قيد الحياة قبل العثور عليهم اشلاء متناثرة.
الحرب ومخلفاتها على قطاع غزة لم تكن هي أشد وطأة ، فالفقر والعوز والبرد والجوع ، ونقص الخدمات الضروريه وغيرها هي أشد قسوة بلا شك، وخذلان وتقاعس وتهاون العالم العربي والإقليمي والإسلامي والدولي لنصرة غزة هو بمثابة زلزالا وصدمة كبيرة لقطاع غزة، فالعدو المحتل المعتدي المغتصب لم يرحم البشر ولا الحجر ولا الشجر، وكأنه مكتوب على غزة أن تعيش في الجحيم وتتلقى الصدمات والويلات وتعيش تحت الركام وفي الدمار، حتى يصدر لها شهادة الوفاة!!
ففي كل مرة كان الفلسطينيون يلملمون جراحهم ويداون مرضاهم ، ويتكؤون على آمالهم ، ويصنعون اسلحتهم بأنفسهم ، ويشيدون بيوتهم ويحرثون ارضهم ، ويقولون للعالم لا تجزعوا فنحن نمرض ولكن لا نموت فنحن كطيور الفينيق ننهض من تحت الرماد والركام .
هاهو اليوم يقف العالم متفرجا صامتا أمام أهوال كارثة إنسانيه لم تكن في الحسبان ، ومجازر بشريه وابادة جماعية لم تقع سابقا منذ الحرب العالميه الثانيه.
بيد أن الحرب والمصيبه هذه المرة مختلفة تماما ، لا تعرف منطقاً، ولا فرقا بين مسلما او نصرانيا ، ولا فرقاً بين عربي وأعجمي ، وحجم المأساة والمعاناه والمصيبه كبير جدا وقد يطول ويطول ، وصرخة الفلسطيني وصلت إلى مشارق الأرض ومغاربها .
كثيرون من هم بالعالم سمعوا أصوات هذا الصراخ والنداء ، ولكن لا أحد لبى النداء ، ولا أحد فزع لنجدة صراخ الأطفال والنساء وأنين الجرحى تحت الركام والدمار ومن تحت الانقاض.
ألم يصلهم صوت النجده والاستغاثه؟ ألم تحرك مشاعرهم اصوات صراخ الأطفال والنساء الثكلى ؟؟ألم تهز انسانيتهم أنين الشيوخ والعجزة والمرضى والجرحى؟.
هل انعدم التعاطف والتضامن والتراحم بين البشريه ؟.
شعب فلسطين عزيز النفس قوي الإرادة والعزيمه ومصرا على الدفاع عن ارضه وعرضه ومن حقه العيش بسعادة ،ومن حقه أن ينال حريته واستقلاله، وينعم بالامن والأمان والاستقرار والاطمئنان.. ويقينا يطمح بأن يبصر النور مجدداً..
فهل من آذان صاغية وعيون وقلوب مبصرة، وعقول ثائرة؟!..