تصر وزارة المالية على التأكيد عاما بعد عام بأنه لن يكون هناك فرض لضرائب جديدة في الأردن.
هذا التعهد السنوي مريح في الظاهر، ولكنه يخفي وراؤه صورة معقدة للتحديات الوجودية التي تواجه الضرائب القائمة "القديمة".
وكما نعلم جميعا، فإن تراجع الضرائب القائمة أو "القديمة"، أو تلاشيها كليا، سيعيدنا إلى نقطة الصفر أو ما وراء ذلك، للبحث عن ضرائب وبدائل وحزم تقشف جديدة لمعالجة الفجوة المتشكلة.
في الأردن تحصل الخزينة سنويا حوالي 1.2 مليار دينار من ضرائب المحروقات. هذا الضرائب ستبدأ بالتراجع شيئا فشيئا إلى أن تتلاشى كليا مع استبدال أسطول النقل الأردني بالمركبات الكهربائية.
قد يرى البعض بأن من المبكر التفكير بهذا الأمر. أو أن التحول الكلي يحتاج إلى عدة عقود للتحقق.
هذه النظرة، للأسف، تتجاهل إحصائيات السنوات الأخيرة، التي تشير إلى تضاعف مستوردات السيارات الكهربائية في الأردن بشكل سنوي.
كما أنها -ذات النظرة- تستهين بقدرة التكنولوجيا على الانتشار والتسارع في وقت قياسي خاطف يمكن أن يفاجئ صانع القرار والمستهلكين في ذات الوقت.
فبينما تنبأت شركة "مكنزي" للاستشارات عام 1989 بأن عدد أجهزة الهواتف الخليوية في العالم سيصل إلى 900 ألف جهاز عام 2000، كانت النتيجة الحقيقية بلوغ عدد الأجهزة الخليوية 120 مليونا في ذات العام.
أي تسارع من هذا القبيل في التحول نحو المركبات الكهربائية يمكن أن يضع المالية العامة في الأردن أمام مخاطرة كبيرة خلال عشر سنوات أو أقل، نتيجة خسارة أكثر من مليار دينار من الإيرادات الضريبية من المحروقات.
صحيح أن دول العالم الأخرى، وخصوصا المتقدمة، تبحث هي أيضا عن بدائل لخسائرها المحتملة جراء التحول لسيارات الكهرباء، وتوقف إيراداتها من المحروقات. ولكنها في وضع أفضل بكثير من الأردن، سواء في قدرتها على احتمال الخسارة أو إيجاد البدائل.
فهذه الدول تفرض ضرائب المحروقات بقدر حاجتها لصيانة وبناء الطرق ومنظومة النقل العام، وليس لتمويل النفقات الجارية بمختلف أنواعها كما هو الحال في الأردن.
لذلك نجد هذه الضريبة تشكل 1.5% 4% من الناتج الإجمالي والإيرادات الضريبية في بريطانيا، بينما تشكل في الأردن 3.6% من الناتج الإجمالي وما يقارب 20% من الإيرادات الضريبية.
كما أن الدول المتقدمة تمتلك البنية التكنولوجية والتقنية لاستبدال ضرائب المحروقات بأخرى تعتمد على عدد الكيلومترات التي تسيرها المركبات، بينما نواجه في الأردن تحديا في تطبيق هذه النماذج، ليس على المستوى التقني فقط، إنما أيضا على مستوى التحصيل المالي وإنفاذ القانون.
وعلى سبيل المثال، صرح وزير الداخلية مؤخرا بأن هناك 250 ألف مركبة في الأردن منتهي ترخيصها منذ ثلاث سنوات. ولنا أن نتخيل ما يشكله ذلك من صعوبة أمام تحصيل ضرائب بديلة عن المحروقات من المركبات، خصوصا وأن هذا العدد من السيارات غير المرخصة مهيأ للتضاعف في حال وجود ضرائب بديلة مرتبطة بالترخيص السنوي.
ويضاف إلى ما سبق سرقات الكهرباء والتحديات البيئية والتجارية التي تحد من قدرة الحكومة على فرض المزيد من الضرائب على أسعار وتعرفة وترخيص المركبات الكهربائية مستقبلا.
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن الحكومة أمام خيار وحيد لتعويض الخسارة المستقبلية من ضرائب المحروقات، وذلك من خلال فرض ضرائب معتدلة على استهلاك السيارات الكهربائية للطرق، وتعويض الخسارة المتبقية من خلال تقليص نفقات الدعم الحكومي وتعديل تعرفة استهلاك الكهرباء والمياه لتغطية الكلفة، وفرض ضرائب على الكماليات والسلع غير المنقولة.
وبدلا من الانتظار إلى لحظة الصفر، يمكن أن تبدأ الحكومة مبكرا باستبدال الضرائب على المشتقات النفطية المستهلكة من قبل الفئات الفقيرة والإنتاجية، مقابل رفع تعرفة المياه أو الكهرباء أو العقار، أو رفع الدعم وفرض ضرائب على سلع أخرى.
كما يمكن الآن البدء بإدخال تكنولوجيا احتساب سير المركبات على الطرق، ووضع نماذج محاكاة تجريبية دون رسوم حقيقية تمكن المستهلكين من الاعتياد على مبدأ ضريبة استهلاك الطرق، وتوفير البنية التكنولوجية لتحصيل هذه الضرائب بأكثر الطرق سهولة ويسرا على المواطنين.
ليس الهدف من هذا المقال رسم صورة متشائمة لواقع التحول إلى سيارات الكهرباء. ولا يمكن كذلك إنكار الفوائد الاقتصادية المترتبة على انخفاض فاتورة استيراد الوقود، وما سيرافق ذلك من ارتفاع في معدلات السيولة المحلية، وانخفاض في معدلات الفائدة، وارتفاع في الإنفاق على سلع أخرى متنوعة، تساهم أيضا في رفد الخزينة بالإيرادات.
ولكن مع ذلك علينا الانتباه مبكرا، تجنبا لعامل المفاجأة ووقوع ما ليس بالحسبان كما حصل عند انقطاع الغاز المصري، وعند تحول مستهلكي الكهرباء المليئين "المربحين" إلى الطاقة المتجددة، لتمنى شركة الكهرباء الوطنية بالخسائر مجددا بعد سنوات من الإصلاحات المتتالية.
العبرة ليست فقط بعدم فرض ضرائب جديدة، ولكن أيضا باستشراف مستقبل الضرائب القديمة، والاستعداد لتغير أنماط الاستهلاك والتكنولوجيا، حتى تبقى ماليتنا بخير ونحقق فعليا أهداف الاستدامة.