صناعة البطل .. صناعة العدو
محمد العامري
07-01-2024 01:13 AM
لم تسلم أمم العالم الثالث من صناعة الأوهام المركبة، والبحث عن أيقونة سياسية تمثل لها مشجبا لانتصارات واهمة بجوار تبريرات ساذجة من الممكن أن تكسر الأيقونة في لحظة مباغتة، وأخطر ما في الوهم هو أن يتحول إلى حقيقة يقينية من الصعب تفكيكها واختبارها، حيث يتحول إلى معتقد سياسي لا راد له، ويتمثل ذلك في استمرار تدوير الوهم والرمز كصورة أقرب إلى تعويذة للحياة أو قلادة يتقلد بها الناس درء من الخطر، فيصبح الوهم وباء يعطب الجماعات، وباء فيه لذة غامضة رغم حموضته، والمساهم الأول في زراعة الوهم هو الاعلام واستمرارية الحديث عن البطل كصورة خارج المعقول والواقع، والتركيز على صناعة الإيجابيات فيه وغض النظر عن ما هو سلبي وخاسر، وفي حين بروز الغريم السياسي للبطل يواجه جبهة عاتية للقضاء على مقترحاته وتصوراته التي ربما تكون في غالبها كشف لسلبيات البطل، فالبطل خارج دائرة الشكوك، وهو أقرب إلى إله صغير.
يقول نعوم تشومسكي: " هناك هدف من تحريف التاريخ وجعله يبدو كأن الرجال العظماء فعلوا كل شيء بعد النفخ فيهم، إنه جزء من كيفية تعليم الناس أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء، وأنهم عاجزون، وعليهم فقط انتظار رجل عظيم ليفعل ذلك من أجلهم!".
الاخطر من ذلك هو الايهام السياسي لتقديم سلعة حزبية تصل الجمهور محملة بخصال ليست في الخصم وتكون الضحية هي الحشود، وفي الحقيقة هو صورة من صور كشف العجز عن غياب للسياسة أو موتها، بكون السياسة حياة وتدبير لا عجز وتسليم، واختلاف الشعبية عامل رئيس في العملية السياسية ومحفز للفعل لا قاتل له.
يقول غوستاف لوبون:" ما تزال السياسة في العالم العربي تدار من خلف ستار بلا احترام لقوانينها ولا فعل عقلاني مؤسس عمادها المراهنة على تحويل الأوهام إلى حقيقة ما دامت الميزة الأساسية للجماهير هي انصهار أفرادها في روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية وتخفض من مستوى الملكات العقلية".
فالعالم الآن سارع في تتبع عالم الصرعات الواهمة تماما كالقطيع الذي يتبع مرياعه دون معرفة النهايات الأسباب، وهي أقرب إلى نظرية "الفاشنيستا" الذي أطلقها الإيطالي "سيمون باولو" فالفاشنستي هم الأشخاص الذين ينخرطون في آخر صيحات القضايا، والمشاكل الاجتماعية والسياسية، حيث يملكون موهبة لافتة في توظيف وتوجيه الجموع لصالحهم من خلال إثارة النعرات الطائفية أو الجنسية أو دينية والسياسية، في عالم التواصل الاجتماعي، حيث يصبح الوهم حقيقة يدافع عنها الجمهور بوصفها اليقين، ولا يمكن كشط غشاوة الوهم إلا بوجود فرد يتمتع بوعي غائر في المسألة الاجتماعية والسياسية والقانونية اللازمة، فالوعي يُسقِط المؤامرات لأنها تعتمد على الوهم والكذب وتدليس الحقائق، بعيدا عن التسقيط السياسي الذي يفتقر إلى الحقائق والوقائع، ونشاط الذباب الالكتروني المُضلل، وقد ارتكب العالم الثالث ضلالة قاسية تتمثل في عدم معرفة عدوه بل وتحديد من هو العدو، وأذكر هنا ما استشهد به "أمبرتو إيكو" في مقدمة دراسته بأهمية وجود العدو في حياتنا؛ من خلال قصة طريفة كانت قد حدثت له في نيويورك؛ حيث كان يستقل سيارة أجرة يقودها شخص من أصول باكستانية، فسأله السائق عن بلده، فأجابه "إيكو" بأنه من إيطاليا، فرد عليه السائق بسؤال آخر: من هم أعداؤكم؟ فاجأ هذا السؤال "إيكو" وحمله على التفكير في الدور الذي يلعبه العدو في تشكيل الهوية والذات، بحيث إن السؤال عن العدو جاء تالياً على السؤال عن الجنسية عند هذا السائق"!
صار من الواجب والضروري معرفة أعداءنا في الداخل والخارج، ونرى إلى أن الأردن يعاني من مركب للعدائية المتشعبة في أكثر من جانب، الجوانب الحدودية ومن يمثلهم في الداخل، كجزء من إجراءات إزاحة الوهم عن كثير من المسلمات، فتحديد العدو يمثل صورة مشرقة لقوة الدولة وطبيعة تنميتها على الصعد السياسية والاجتماعية وشيوع الأمان، إلى جانب إيجاد كيفية في توصيف العدو بصورته الحقيقية، وأذكر هنا الكيفية التي صور بها الرومان أعداءهم على أنهم "برابرة"، مشيراً إلى الكاتب الروماني "شيشرون" الذي وصف أعداء روما بأنهم "وثنيون ويمارسون طقوساً تتسم بالعربدة"، وعلينا أن ندرك بأن لا يوجد عدو رؤوم، ربما يتسلل بنعومة أفعى إلينا لكنه على أهبة الانقضاض عليك في أي لحظة تتاح له بكونه يتحرك ضمن أطماع
لا تنتهي، بوصف العدو ضرورة حتى إن لم يكن موجودا. يشير "كارل شميت" إلى أنه لكي تحقق الأمة وجودها بالذات، فإنه يتعين عليها أن تحدد عدوها، وهنا تمثل الدولة الشكل الأكثر اكتمالاً للسياسي، ذلك أنها الكيان الوحيد القادر على تحديد العدو العمومي للأمة وتسميته".