سيمضي العام ويبدأ اليوم الآخر برزنامة جديدة للمقتلة، فمن رهبة الموت الذي عشعش وسط الضجيج الإعلامي في فلسطين نعدّ الموتى كرزنامة اليوم حين ننزعها من جسد الورقة، فرزنامة غزة تختلف حيث ننزع كل دقيقة ورقة من عمر إنسان كان يحلم بعائلة وقليل من الخبز والدواء، تلك الفجيعة التي تتسلسل في أيامنا كعادات الموائد، لقد اعتدنا الموت كما لو أنه وجبة نتناولها مع مواعيد محددة، نصاب بكوابيس لم نعرفها من قبل، كابوس الجثث الملقاة على قارعة الوقت، نمر بجوارها ولا نعرفها كشبح سقط للتو من مكان غامض ونمشي، هو الموت الذي لا يشبه صاحبه، الموت الفلسطيني الذي سجّل تاريخا مفارقا للأنين والبكاء على أطلال من ذهبوا في الضجيج، ففي كل ساعة ننظر شاشة مليئة بالدم ونعد قتلانا واحدا تلو الآخر، رزنامة لم تزل تنزع خريفها بانتظار ربيع قادم، فالفكرة بالموت الجماعي ليس موتا عاديا، باعتباره صورة لدستوبيا العصر الذي تحصن بالتقانة والشغف بتجريبية المقتلة التي حصدت الألاف من الأبرياء المبتسمين لمطلع شمس كانت في متناول اليد.
فهو موت غير اعتيادي، حيث لم تقم مراسمه اللائقة بهيبته، فصار طقسا جماعيا تجاور فيه القتلى كتفا بكتف، مثوى قد لا يشبه النهايات لكنها ديمومة لدم يشخب على مدار اليوم، كبداية جديدة لموت آخر، حي يعود فيه القاتل ليقتل جسد ضحيته التي فارقت الحياة، كما لو ان القاتل أراد أن يؤكد فكرته على الموتى أنفسهم، فقد سجلت أعين القتلى صورة القاتل في لحظاتهم الأخيرة، في حدث لا يحدث إلا في فلسطين، فالموت في غزة فكرة يومية يشْتمّها الغزّيون في دخان الطوابين، وفي صوت القذيفة، في صراخ أم تحمل جثة طفلها الساخنة وهو لم يزل يلثغ باسمها، هكذا صار وبشكل يومي الموت الفلسطيني الوضح على الشاشات، شاشة الأرض المروعة، وتأسٍ يثير الحنق على الوجود كله.
هكذا صار الموت حدثا عاديا، مع فارق المعنى لدى الفلسطيني فموته طريق لحياة أجمل، ووطن صامد في وجه أعتى الأعداء، "إنني عدت من الموت لأحيا، لأغني… إنني مندوب جرح لا يساوم علمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي وأمشي... ثم أمشي... وأقاوم!" هكذا أنشد درويش مرثيته، فلا حدود لأسى صار موطنا للروح، ولعل ما يغضب الكيان الصهيوني أن الفلسطيني لا يموت، كائنات ولودة فعنقائهم في دمهم لا تفارق العودة للحياة، أو يبدو كأنهم يجاوزون الموت بقوة الأشجار والتراب، كائن يعيش بين الممكن والمستحيل، بين الأسطورة والفجيعة، لا يقتنعون بالزوال، شعب يحول الموت إلى قيامة جديدة للحياة، هو الفداء على الطريقة الفلسطينية، فسؤال الفداء سؤال مركب يتنامى في سياق توريث الكرامة والوجود، سؤال خادشٌ لوعينا بالحياة، كنقيض لا يعول على قيم الحضارة التي كشفت سوءتها فباتت في شك من تحققها ووجودها، بكوننا على الأقلّ في معادلة زائفة بين سياقين ثقافيين متناقضين، سياق الحق وشيوع الباطل المزخرف بمعادلات سياسية لا جدوى منها على مدى التاريخ، في نسق لحضارة معولمة وحداثة زائفة، وهذا أعادنا إلى سارتر، وبطله روكانتان الذي اكتشف كيف يتم تزييف التاريخ، لقد مهّدوا الدرب لنسير فوقه، واخترعوا التقانة ليمكثوا في جوف ذاتنا، وفصّلوا تعريفات الحضارة على مقاسهم، بينما عرّفوا الهمجيّة لتكون من نصيبنا، وعلى المقاس الذي يرغبونه، وصارت العلاقة بيننا وبينهم حب من طرف واحد، أو اشبه بعبودية بكامل أناقتها، حتى سقطت الحداثة فوق رؤوسنا كسلحفاةِ أسخيلوس، ولم يوضّح هايدغر كيف يحاول الدازاين التفاعل مع الآخرين من دون انفصال، أو كيف بحث عن الغائب في الذات من دون عزلة. وتعلمنا من غزة أن من يمحو ذاته في المحتل لن يستردها.
فالانقلابات الأخلاقية التي كشفتها غزة وضعتنا أمام أسئلة مثيرة للتقزز، حيث اقتضاء الحاجات النفعية التي حولت النعم إلى نقم، وجعلت الآمال المنظورة، مجرد برق خلّبي، يخدع الأعين، لدرجة تعميق الكراهية وأقنوم الشر، وتعاظم سلطة الشيطان، أو على أقل تقدير إشاعة العماء الأخلاقي والتطبيع مع الشر وتجلياته المزخرفة.
لذك نرى إلى رزنامة الموتى قد تجاوزت الساعات والأيام وصار اليوم أكثر من ثانية، حيث ننزع أوراق الموتى بسرعة هائلة كما لو أننا نحاول اللحاق بسرعة الدم، نحن الآن فقط أمام رزنامة للمقتلة نقلبها كل يوم ببلادة الأشياء.