عدد الشهداء في غزة، أعلى بكثير من الرقم المعلن لأن هناك آلاف المفقودين وهذا يعني ان عدد الشهداء يقترب من الثلاثين ألفا حتى ساعة كتابة هذه السطور، وسوف يرتفع العدد بشكل أكبر خلال الأيام القليلة المقبلة، ما دامت العمليات الإسرائيلية متواصلة في قطاع غزة.
الذي يدفع الكلفة الأخلاقية في هذه الحرب، ليس إسرائيل وحسب، بل الولايات المتحدة، وكثير من الدول الغربية، بسبب الانفصام الذي يسيطر على سياساتها، وهو انفصام يقول ضمنيا ان لا قيمة للإنسان العربي والمسلم في سياسات هذه الدول، والا كيف يمكن أن نفسر سكوت كل هذه الدول على ذبح الأبرياء والمدنيين وقتل عشرات الآلاف، وجرح عشرات الآلاف، وهدم بيوت المدنيين، واعتبار أن كل ما يجري مجرد حرب ضد تنظيمات تحارب إسرائيل، فيما يتم الانتقام من المدنيين، وتحديدا الأطفال حين يستشهد عشرة آلاف طفل في أقل من 3 أشهر.
في نقاش سياسي حاد يقول سياسي مخضرم أن الولايات المتحدة مثلا تسببت بقتل مليون عراقي منذ عام 1990 وحتى نهاية عام 2003، وجميعهم من الأبرياء والمدنيين، أي أن ذريعة محاربة النظام الحاكم في بغداد، سمحت لواشنطن ودول غربية ثانية، بتطبيق العقوبات على المدنيين، في ربط غريب بين النظام والمدنيين، وكأن الانتقام من المدنيين وسيلة لاسقاط النظام وارهاقه، برغم حرمة ذلك وفقا للقوانين والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان.
في الحروب يدفع المدنيون الثمن دائما، وفي الحرب العراقية الايرانية، خسر ملايين البشر حياتهم، وهم ليسوا اساسا على جبهات القتال، وفي الحربين العالميتين الاولى والثانية تم قتل اكثر من ستين مليون شخص، غير خسائر الجيوش المتحاربة في ميادين القتال والحرب.
هذا السلوك لا يعبر عن أدنى درجات الأخلاق، ولا عن الإنسانية بأي درجة، وفي زمن تثير فيه عواصم غربية مثل واشنطن ملفات حقوق الإنسان بشكل دائم، فإنها على أرض الواقع تتصرف على العكس، وهي قد توجه نقدا لنظام شرق أوسطي على اعتقال شخص كتب مقالا لاذعا، لكنها بالمقابل تتعامى عن قتل مليون عراقي، مثلا، وعن استشهاد عشرات آلاف الفلسطينيين غير المحاربين، غالبيتهم من الأطفال والنساء، بحيث يراد تحويل قطاع غزة إلى منطقة خاصة للايتام والأرامل، والمذعورين من صوت الصواريخ، في حرب نفسية أيضا.
اللافت للانتباه أيضا أن دولاً كثيرة ترسل المساعدات المالية والعسكرية والصواريخ والذخائر والقنابل لذبح الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، لكنها في مسار مواز تحاول تجميل كل هذه الوجوه القبيحة من خلال إرسال المساعدات الغذائية والدوائية لابناء القطاع، وكان الأولى بدلا عن إرسال هذه المعونات، وقف الحرب أولا، واسترداد الحياة الإنسانية فيه، وعندها لن يكون الفلسطيني بحاجة الى وجبة غذاء، ولا حبة دواء، أيضا، مثل بقية شعوب العالم.
كيف يمكن أن ترسل صاروخا لقتل عائلة بريئة، وتكون قبلها بيومين قد أرسلت طردا غذائيا لها.هذه مأساة حقا تفتقد إلى أدنى المعايير الأخلاقية وحتى السياسية، لانها كمن يضع القنبلة المتفجرة داخل الساندويش ليموت من يأكله، في سلوك مفضوح وفاضح في الوقت ذاته.
القراءات الأمنية في الدول الغربية عليها أن تتنبه إلى حقائق أخطر، أولها ان سمعتها انهارت كليا في هذه المنطقة، وترميمها صعب جدا وتحتاج إلى مئات حملات العلاقات العامة التي قد لا تنجح، وثانيها أن الارتداد عليها من ناحية أمنية قد يكون خطيرا على المديين المتوسط والإستراتيجي، من حيث توليد التطرف مجددا في تلك الدول على يد جماعات ترغب بالانتقام، وثالثها أنها تشارك سياسيا في حرب ليست حربها، ورابعها انها وضعت كل أوراقها في سلة إسرائيل وكشفت منسوب التحالف معها دون مراعاة لحسابات دول المنطقة الداخلية تحديدا واستقرارها وشعوبها، وخامسها انها باتت في نظر أهل المنطقة بمثابة عدو، بسبب كل هذا الدعم لإسرائيل، وهذه عداوة حاولت دول المنطقة والدول الغربية في مراحل سابقة منع الانجرار نحوها، لاعتبارات كثيرة، لكن كل هذه الجهود تشظت اليوم.
الانتقام من المدنيين في غزة يهدف إلى الانتقام مما تعتبره إسرائيل، الحاضنة الشعبية للمقاومة، وهذا انتقام قد يؤدي إلى نتيجة معاكسة تماما، أي مضاعفة المقاومة باشكال مختلفة وعبر اجيال قادمة، لن تنسى كل هذا القتل والتذبيح بحق شعب يدافع عن وجوده.
"الغد"