نجحت غالبية الدول المضيفة للعراقيين في إقناع بغداد بالتراجع عن فكرة استصدار قرار يفرض على الأردن, سورية ومصر وغيرها تسهيل دخول مواطنيها الهاربين من نار جحيم الديار تغذيّها أجندة طائفية لحكومة نوري المالكي وسط فشل قوات الاحتلال الامريكي في بسط الأمن والاستقرار منذ اجتياح بلاد الرافدين قبل أربع سنوات فاتحة الباب أمام أكبر موجة نزوح بشري في التاريخ الحديث.فوسط تجاذبات سياسية وعملية كشف حساب, تمكنت هذه الدول من ثني وكيل وزارة الخارجية للشؤون القانونية محمد حاج حمود عن "فرض" توصية لدفع هذه الدول- التي تستضيف 2.4 مليون عراقي منذ الإطاحة بنظام صدّام حسين- إلى فتح أبواب العمل والإقامة أمام الضيوف الجدد. وهكذا خرجت توصيات المؤتمر الدولي المتعلق بأزمة المهجرين العراقيين, الذي عقد في عمّان الخميس, بحد أدنى من التوافق, خاليا من أي إشارة إلى فتح الحدود. وهكذا خرج المؤتمرون- بمن فيهم ممثل سورية- بلغة مشتركة تتمحور حول دعم الدول المضيفة التي تشهد شعوبها وبنيتها التحتية ضغوطا تلامس حد الكسر.
لئن أقّرت دول الجوار بحجم هذه الأزمة الانسانية حذّرت في المقابل حكومة بغداد من توظيف غطاء المعاناة الانسانية سياسيا من خلال تغيير المعادلة الديمغرافية في بلد آيل للتفسخ إلى جزر فسيفسائية.
إذن أزمة الثقة تحول دون معالجة التداعيات الاجتماعية لخمسة وعشرين مليون عراقي خرجوا من "دلف" ثلاثة حروب وحصار دولي على مدى ثلاثة عقود إلى مزراب احتلال ما فتئ يمزّق إحدى أثرى الدول العربية.
حمود طالب دولا دون أن يسميها بالابتعاد عن "تسييس قضية اللاجئين وإبقائها ضمن إطارها الإنساني." ودعا الدول المضيفة أيضا إلى وضع "أسس وضوابط لدخول العراقيين" بالتنسيق مع حكومة بغداد معتبرا أن "المشاغل الأمنية للدول لا تبرر المعاملة المهينة للعراقيين".
على أن العراقيين أفهموا خلال الاجتماعات التحضيرية يوم الأربعاء بأن المؤتمر الدولي ليس المكان المناسب لطرح قضية ثنائية الأبعاد بين العراق وكل من دول الجوار على حدة.
ثم جاءهم الجواب في البيان الختامي بأن الدول المضيفة هي "صاحبة الولاية الخالصة فيما يتعلق بدخول العراقيين الى أراضيها واقامتهم فيها وفق قوانينها الداخلية واعتباراتها, على ان تتم مناقشة أي قضية مرتبطة بهذا الموضوع في اطار ثنائي". لكن هذه الدول تعهدت بتمكين العراقيين المتواجدين على أراضيها الحصول على خدمات أساسية أسوة بمواطني هذه الدول على صعيد المستلزمات الطبية والادوية والبنية التحتية والكوادر الطبية بالتعاون مع الدول المانحة مقابل الحصول على مساعدات.
لم ينتظر الأردن طويلا, إذ أعلن غداة المؤتمر عن قرار مرتقب يسمح بانتظام أكثر من 50.000 طالب عراقي في السنة الدراسية 2007-2008 حتى لو لم تكن لديهم إقامات قانونية, وذلك مقابل رسوم رمزية قدرها 40 دينارا فضلا عن 15 دينارا بدل كتب, بحسب مسؤولين. هذه الرسوم تغطي جزءا يسيرا من رسوم الطالب الحقيقية في المدارس الحكومية بغض النظر عن الجنسية, إذ تقدر بحوالي 800 دينار في العام.
حتى الآن لم ترد أموال كافية لإسناد البنى التحتية في الأردن, سورية ومصر, مع أن ممثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في عمّان عمران ريزا تحدث عن استجابة أولية إيجابية بعد إطلاق نداء إغاثة بجمع 60 مليون دولار ضاعفته الأسبوع الماضي إلى 123 مليون دولار.
الأهم أن المشاركين أكدوا في بيانهم الختامي على أن حل مشكلة المهجرين العراقيين الحقيقي والفعلي يكمن "بعودتهم الى بلدهم وتحقيق الأمن والاستقرار هناك من خلال عملية سياسية تشارك فيها كل مكونات الشعب العراقي السياسية والدينية والعرقية".
لاحظ خبراء عرب وأجانب شاركوا في المؤتمر بأن الوفد العراقي كان يتصرف وكأنه واقع تحت ضغوط شعبية داخلية وخارجية لإظهار حرصه على مداواة جروح عراقيي المهجر وذلك ردا على اتهامات بأن حكام بغداد الجدد لا يكترثون بل يتقاعسون عن توفير دعم مالي لدول الجوار يعينهم على استمرار إيواء مهجرين بالحد الأدنى من الكرامة والانسانية. كذلك تواجه الحكومة العراقية اتهامات من مواطنيها بأنها فشلت في تسهيل دخولهم إلى دول الجوار- في مقدمتها الأردن الذي قنّن أعداد الداخلين عبر حدوده الشرقية منذ تفجيرات الفنادق أواخر 2005 بسبب مخاوف أمنية من تسلل عناصر تنظيم القاعدة أو مليشيات مناوئة للأردن ضمن عمليات تصفية حسابات.
لكن خيبة الأمل الكبرى جاءت حين جدّد موفد العراق تعهدا عمره ثلاثة أشهر بتقديم 25 مليون دولار تصرف مرة واحدة عبر الدول المضيفة يحصل بموجبها كل فرد على أكثر من 1.5 دولار لتنشله من غياهب الفقر والعوز والخوف من المجهول في انتظار عودة قد لا تأتي.
شهد الاجتماع الدولي على مستوى الخبراء أيضا محاولة تنصل من المسؤولية, فيما حذّرت دول عربية مضيفة للعراقيين حكومة المالكي الموالية لايران من محاولة تغيير المعادلة الديمغرافية وإعادة رسم الخريطة السياسية لعراق جديد عبر تفريغه من مكوّن أساسي ودفع فئة سكانية مستضعفة الآن للجوء إلى دول الجوار ذات الأغلبية السنية.
في خلفية المشهد العراقي أجواء داخلية اكثر تعقيدا تتحرك ضمن انشطارين أفقي وعامودي للمكونات المذهبية والقومية العراقية بعد أن ظلّت خلال السنوات الأربع الماضية تتمحور حول الصراع على السلطة والثروة بين سنة وشيعة, عربا وأكرادا عقب تغوّل إيران خلال السنة الماضية على صهوة حكومة مأزومة وقوات احتلال مهزومة يبحث ساستها وعسكرها عن أسهل طريقة للخروج من المستنقع.
رئيس الوفد الإيراني تحدّث عن مفارقة رقمية قبل وبعد حرب العراق الأخيرة. إذ قال السفير الإيراني في عمّان محمد إيراني إن أعداد العراقيين انخفضت في بلاده من مليون و320 ألفا خلال العقد الماضي إلى نصف مليون الآن. يشار إلى أن هياكل الحكم الحالي تشكّلت من تنظيمات وأحزاب وشخصيات غالبيتها شيعية كانت لاجئة في إيران قبل العام 2003.
في مؤتمر عمان الذي جاء استكمالا لتوصية مؤتمري بغداد وشرم الشيخ لدول الجوار, أرادت الحكومة الأردنية إسماع صوتها للجميع- مانحين ومتضررين. فالمملكة لن تقبل أن يرسل المجتمع الدولي أموالا إلى العراقيين على أراضيها من خلال قنوات موازية. إذ هي بحاجة إلى تدعيم ميزانيات وزارات الصحة, التربية والتعليم, المياه والاشغال حتى تواكب الضغط المتزايد على هذه المرافق. كما أنها لن تفتح الحدود لدخول عشوائي بينما يفر من العراق 50 ألف مواطن شهريا بخلاف النازحين الذين يقدر عددهم بمليوني نسمة, بحسب تقديرات المفوضية السامية.
الحل النهائي لملف العراق المنهار أصبح في يدي إيران والولايات المتحدة بوصفها قوة الاحتلال التي أدّت سياساتها بشكل أساسي الى خلق معاناة العراقيين بين مهجّر ونازح بالتزامن مع محاولة ايجاد حل يائس يضمن عودة الامن والاستقرار.
في هذه الأثناء, تحاول دول الجوار استيعاب تداعيات الهجرة العراقية إليها. تقدّر سورية عدد العراقيين على اراضيها بمليون ونصف المليون, يليها الأردن الذي تتفاوت فيه اعداد العراقيين بين 500 الف و800 الف حسب تقديرات رسمية وخاصة, ثم مصر التي تحتضن حوالي 100 الف.
تقدّر دمشق تكلفة إسناد العراقيين بـ 1.5 مليون دولار بينما يجادل الأردن بأنه ينفق أكثر من مليار دولار على هذه الفئة, التي تشكل خمس عدد سكانه.
استغل الأردن مؤتمر الخبراء للتأكيد على أنه لن يتراجع عن تقنين دخول العراقيين, وهو طلب بات يسمعه المسؤولون في كل مرة يستقبلون وزيرا أو موفدا عراقيا. إذ لا تنقطع شكاوى بغداد من أن عمان تهدّد أمن العراق من خلال إيواء قادة بعثيين ومحاولة إسناد السنة - وهو ما ينفيه المسؤولون. آخر مرة تكرّرت فيها هذه الشكوى كانت خلال زيارة غير معلنة قام بها علي الدبّاغ, الناطق الرسمي باسم المالكي, إذ اشتكى من أن الأردن لا يدعم حكومة بلاده في محاولة بسط الأمن. أفهم الدبّاغ بأن تفاقم الوضع في العراق سببه سياسات المالكي الذي يخدم أجندة إيران ولا يحاول ايجاد حل سياسي يضمن استقرار العراق وإشراك مختلف مكوناته في رسم المستقبل.
الى أن يأتي ذلك الوقت سيواصل الأردن رفض توطين عراقيين أو تصنفيهم كلاجئين, وسيشدّد على أن مذكرة التفاهم مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تنص على ترتيب لجوئهم إلى دولة ثالثة إن تعذرت عودتهم إلى أوطانهم.