عن أردن العروبة: في تفنيد أكذوبة "الدولة الوظيفية
محمد حمادات وأحمد الضرابعة
25-12-2023 12:43 PM
في غالب الأحيان، يجري الإصرار على خلط الحقائق بالأوهام؛ لصناعة لبس دائم تستغله أطراف ما، وهنا تصبح الحاجة ملحّة لإجلاء الحقائق؛ حتى لا يقع أحدهم ضحيةً للتضليل.
شاع في الآونة الأخيرة وصف الأردن بـ "الدولة الوظيفية"، وهي من جملة المصطلحات الواردة في أدبيّات سياسية مُنقَرِضة، لطالما اتّكأت عليها أنظمة عربية بائدة في سعيها المحموم لنزع الجذور الوطنية - القومية المنشئة للكيان السياسي الأردني، ورغم أن الوقائع التاريخية، دحضت جميع الافتراءات التي تضمّنتها تلك الأدبيات بشأن الأردن، وسياق نشأته ودوره الإقليمي، إلّا أن هناك أطراف مأزومة، تسعى لاجترارها من جديد، للغايات ذاتها.
ومثلما تولّى الرعيل الأول من الوطنيين الأردنيين مهمة الرد على تلك الترّهات، فإننا لا نتحرّج من تأدية المهمة ذاتها أيضاً، ولن نستحي من تأكيد إيماننا بالأردن، في الوقت الذي يكفر به من يجهله أو يضمر له الشر.
في البداية، دشّن الأردنيون كيانهم السياسي الحديث في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، على أنقاض الدولة العثمانية، وفي إطار المشروع القومي الذي عبّرت عنه الثورة العربية الكبرى التي أعلن قيامها الشريف الحسين بن علي، وذلك بعد ملاحم بطولية خاضوها مع الأتراك، شهدتها الجغرافيا الأردنية، شقّوا بها الطريق نحو المعادلة الدولية، فانتزعوا وطناً في حجم بعض الورد.
إن السياق النضالي الذي تراكمت فيه جهود القوى الوطنية الأردنية للإجابة عن سؤال المصير، أدّى في نهاية المطاف إلى نجاح تلك القوى في نقل الأردنيين من مرحلة اللا دولة، إلى مرحلة الدولة الوطنية المستقلة، وفي سبيل ذلك، قدّم الأردنيون دماءً رووا به ترابهم، وعرقاً غسلوا به حجارتهم، وغلغلوا مخالبهم في أراضيهم ولم يسمحوا بسرقتها.
إن قيام الدولة الأردنية، كان مضاداً للرغبة الإسرائيلية التوسعية، فحدود الوطن القومي اليهودي تشمل نهر الأردن بضفتيه الشرقية والغربية، وقد ذكر الكولونيل ماينر تزاغن الذي كان يعمل في وزارة المستعمرات البريطانية أن اجتماع الأمير عبد الله الأول بتشرشل في القدس أسفر عن ضربة قوية لليهود، بعد نجاح الأمير في استثناء شرق الأردن من وعد بلفور، وهي المنطقة التي حرص اليهود أن تكون جزءاً من وطنهم القومي الذي وّعدوا به.
ومنذ قيامها عام (1921)، تشرّبت الدولة الأردنية أفكار الثورة العربية الكبرى ومبادئها، وطوَّعت سياساتها واستراتيجياتها بما يخدم المصالح القومية للأمة العربية، رغم خضوعها للانتداب البريطاني في العقود الأولى من عمرها، والذي قوبل بمقاومة أردنية تمكّنت من إنهاءه وتحقيق الاستقلال الوطني.
وحين كانت الفوضى ضاربة أطنابها في محيط الأردن العربي بسبب الاستراتيجيا الاستعمارية البريطانية - الفرنسية، أصبح الأردن مركزاً للثوار العرب، من سورية ولبنان وفلسطين، لمقاومة الانتداب الذي فُرِضَ على بلدانهم، حتى أن المستعمر الفرنسي ساءت علاقته بنظيره الإنجليزي على خلفية عجز الأخير عن ضبط العمليات الفدائية المنطلقة تجاه الأول، من الأراضي الأردنية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أن المشروع الصهيوني حين بدأ رُعاته تسليم فلسطين لليهود، فإن الدولة الأردنية لم تُروَّض، بل سخّرت قدراتها السياسية والعسكرية منذ بدء المشكلة الفلسطينية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وقد خاض الجيش العربي الأردني معارك ضارية مع العصابات الصهيونية عام (1948)، وأفشل محاولاتها احتلال القدس والضفة الغربية، واحتفظ بها لعقدين إلى أن قرر النظام الناصري في مصر عام (1967) خوض الحرب مع إسرائيل، ورغم أن الحسابات الواقعية في ذلك الحين، والتقديرات السياسية والعسكرية، أكدت أن هذه الحرب لا مصلحة للعرب فيها بالنظر إلى ظروفهم الموضوعية، إلا أن الأردن اتخذ قراره الجريء، بالمشاركة فيها امتثالاً للواجب القومي، إذ لم يقبل الجيش العربي الأردني أن تخوض الجيوش العربية الحرب دون أن يكون إلى جانبها، فقاتل جنوده ببسالة منقطعة النظير، اعترف بها العدو الإسرائيلي.
ورغم انتكاس العرب في حرب (1967) التي أسفرت عن احتلال إسرائيل الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وصحراء سيناء وهضبة الجولان السورية، تمسّك الأردن بمواقفه المبدئية، ولم ينحرف عن البوصلة العروبية، ويُوثّق أرشيف الناطق العسكري الأردني مجريات حرب الاستنزاف على الجبهة الأردنية ونتائجها، ولعل أبرز مواقف الأردن التي تعكس صدق نواياه في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، هي وضعه الأرض الأردنية تحت تصرف الحركات الفدائية الفلسطينية، وتوفير الغطاء العسكري لها من قبل الجيش العربي الأردني، وذلك من منطلق الرغبة الصادقة في مقاومة العدو الإسرائيلي، الذي أراد معاقبة الأردن على هذا الموقف، والرد على غارات الفدائيين وقصف المدفعية الأردنية، فنشبت معركة الكرامة عام (1968)، والتي كبّد فيها الجيش العربي الأردني العدو الإسرائيلي هزيمة ساحقة، محققاً أول نصر عربي على إسرائيل، ومن المؤلم حقاً، أن إذاعات عربية شهيرة امتهنت المزايدة على الأردن والإساءة له، تعمّدت في ذلك الحين، نسْب هذه المعركة إلى غير أهلها؛ لتقزيم دور الأردن ومناكفته، ورغم أن الأردن كان يملك وسائل إعلامية عديدة، ألا أنه لم يوظّفها لأغراض "الردح السياسي" الذي دأبت عليه أنظمة عربية، أضرّت سياساتها القضية الفلسطينية، أكثر مما نفعت.
وحين خرجت مصر عن الإجماع العربي، وعقدت صلحاً منفرداً مع إسرائيل عام (1978)، لم يتخذ الأردن إجراءً مماثلاً، بل حذر من أن تصبح المصالح القُطرية أولوية على حساب المصالح القومية، وظل متمسكاً بالمقاربة العسكرية في التعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي، إلى أن تغيرت الحالة العربية، بحيث لم تعد تلك المقاربة قابلة للتطبيق في ظل الانكشاف الاستراتيجي الذي تعرّض له الأردن، فعلى المستوى العربي، عزلت اتفاقية كامب ديفيد مصر عن دول المواجهة في الصراع العربي - الإسرائيلي، وحطّم التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية، القدرات العسكرية للعراق الذي كان عُمقاً استراتيجياً للأردن، وقد تحقق ذلك بمشاركة دول عربية لطالما سعت أنظمتها السياسية لترسيخ مقولة أن الدولة الأردنية "دولة وظيفية"، وقد تجلّى الدور الوظيفي لتلك الأنظمة بوضوح، في انخراطها المباشر في المشروع الأميركي - الإسرائيلي الهادف لتقويض القوة العربية من الداخل، وذلك في الوقت الذي تمسك فيه الأردن بموقفه الداعي إلى حل الأزمة الكويتية في إطار البيت العربي، وقاوم الضغوط الأميركية والعربية لإشراكه في التحالف العسكري الدولي لإخراج القوات العراقية من الكويت، ولم تتردد دول عربية في معاقبة الأردن ومحاصرة اقتصاده، لا لشيء، وإنما لالتزامه بعروبته، فقد قطعت عنه النفط والمساعدات المالية، وأبعدت إليه 300 ألف مهاجر من مختلف الجنسيات، وأقحمته في أزمة مالية معقدة، ولم يكن هذا إلا ضريبة قاسية فُرضت على الأردن الذي اختار الحفاظ على ثوابته وهو يدرك أن تكلفة ذلك في زمن التردي العربي، باهظة الثمن.
إن هذه المقالة، نعتبرها محاكمة تاريخية منصفة للمقولة التي تنصّ على أن الأردن "دولة وظيفية" والتي صكّها القوميون واليساريّون، وتبنّاها الإسلاميون، وثبت لنا أن تلك المقولة متهافتة، وأن الانحياز للأيديولوجيات المُصابة بخلل منهجي لا يحجب الحقيقة فحسب، بل يقود إلى التحايل عليها لغايات لا أخلاقية.
أما الدولة الأردنية، فهي أول دولة وطنية حديثة في الشرق الأوسط، وهي الوريث الشرعي للثورة العربية الكبرى التي جسدت فكراً قومياً تبلور لاستئناف مسيرة الأمة العربية، ورغم التحديات الهائلة التي اعترضت طريقها في المئوية الأولى من عمرها، ما زالت قائمة بذاتها، وسبّاقة في نصرة القضايا العربية التي بوسعها أن تستدير عنها، إلا أن قيادتها الهاشمية، والشعب الأردني، متفاعلان في طبعهما مع الهموم والتطلّعات العربية.
وقد تعلّمنا الأحداث الجارية في قطاع غزة، أن الحاضر عُرضة للتزوير، فما بال القارئ بالماضي الذي تختلف الروايات بشأنه وأكثرها خيالي ؟
إننا نكتب هذا، ليكون ثقباً في جدار الأوهام والأكاذيب الذي شُيد ليحجب عن الناس تاريخ دولة استشهد مؤسسها على عتبة المسجد الأقصى، وروت دماء جنودها تراب فلسطين، وما زال شعبها يدفع أثمان مواقفه العروبية.
تلك قصة دولة ولدت في النار، ولن تحترق.