حرب وكراهية .. تشكيل الروايات وتحدي الانقسامات
د. ربا زيدان
25-12-2023 10:13 AM
تترك الحروب والنزاعات آثارًا عميقة على المجتمعات، لا تنقضي بانقضاء الحرب، بل تتفاعل في كثير من الأحيان، وتتأصل في النفس، وفي الوجدان مشّكلة حاجزًا نفسيًا إضافيًا يحكم رؤيتنا للعالم الخارجي، وللآخر، صديقًا كان بمفهومنا للضفّة التي يقف عليها أم عدوا يشيطننا عبر آلاته الإعلامية.ويتسارع نمو هذا الخطاب في ظل الظروف القاسية التي تفرضها الحروب، ويتضاعف تأثيره بفعل دور وسائل الإعلام في نقل وتسليط الضوء على الأحداث بطريقة تسهم في إشعال جذوة التمييز وتأجيج النعرات الإقليمية والعرقية والدينية.
ولعلّ أبرز ما ينتج عن الخطابات الإعلامية المتضادة في أوقات الحروب تأصيل الانقسامات، دينية كانت أم عرقية أو حتى مجتمعية حيث تُسْتَغَلّ الظروف الصعبة لتبرير التمييز وتشديد الفوارق الاجتماعية. كما تكرّس ماكينات الدعايات السياسية من أطرف النزاعات جميعها من الصور النمطية التي قد تستخدم لتبرير الأفعال والسلوكيات، مما يعمق الفجوات بين مكونات المجتمعات غير المتجانسة، وفي أحيان كثيرة، بين مكونات المجتمع ذاته.
فقد يغدو مجرد عرض التحليلات والتقارير على إحدى الوسائل الإخبارية، معول تفرقة وهدم، حين تغيب قيم الصِّحافة التي لطالما تغنّى بها المدافعون عن حريات التعبير من توازن وموضوعية ودقة، وتغدو أداة حرب في يد من يملك السلطة والمال ومن يموّل الخطاب المضللّ، صورة بدت مألوفة جدا ومكشوفة في الأسابيع الأخيرة التي شهدت العدوان على غزة، والقتل الجماعي في فلسطين.تحت قوانين الحرب، يُسْتَغَلّ الحدث كيفما كان لأغراض سياسية بحتة، تستخدم فيها الأطراف المتحاربة الإعلام لتسويق أجنداتها وتشويه صورة العدو، مما يعزز التمييز، ويشجع على التحريض، كما نراه يستشري في كل مكان، خصوصا عبر أثير الفضاء الأزرق والمنصات المفتوحة التي يستخدمها الجَمهور من غير المتخصصين ممن يتبعون أجنداتهم الشخصية الخاصة، وينشرون رؤاهم وفقا لفهمهم المنقوص وأحيانًا المكتمل والواعي موادهم التي تؤجج بدورها من الكراهية والغضب.في سياق الحروب، يمكن للهويات والانتماءات أن تتغير وتتبدل بشكل جذري.
يصبح الانتماء إلى جماعة معينة في كثير من الأحيان عاملًا معرِّضًا لتكريس خطاب الكراهيَة، وهو ما يتسق مع ما نشهده اليوم من تواتر الحوادث العنيفة ضد ما تعتبره حكومات بعينها إرهابا، أو يكرّسه إعلام ما رجعية وأصولية.
كيف نواجه هذا الطوفان من الكراهية يفيض بها الإعلام إذا؟
وهل من طرق تحصين للعقل الجمعي الذي باتت تحرّكه أدوات التمويل والبروباغندا التي تمتلكها الأطراف الأقوى في الصراع؟ تلك التي تملك المنصات؟
يبدأ الأمر بالتنشئة، للتعليم دور كبير في تغيير الواقع ، كما تلعب التربية دوراً حيوياً في تشكيل التفكير والرؤى المجتمعية. يمكن للتعليم الفعّال تقديم مناهج تشجع على التسامح المبني على أسس متكافئة، لا تتضمن الاستسلام الفكري ولا الانصياع للاستعمارولا تقبّل الروايات الغربية المؤدلجة للحقائق.قد يسهم هذا الأمر على مدى سنوات في التقليل من خطاب الكراهية الذي قد ينشأ خلال الأزمات، وضمن دوائر الصراعات الوجودية والنزاعات العرقية والدينية.كما يفترض أن يكون للمجتمع المدني دور فعّال في تحقيق التغيير.
يمكن للمنظمات غير الحكومية والمبادرات المجتمعية تشجيع على التواصل المفتوح والتعاون بين مختلف الطوائف والمجموعات المتناحرة في أوقات السلم والحرب على حد سواء.
كما يجب أن نتذكر أن المنافسة الاقتصادية والاقتتال على الموارد ، خصوصا ان كانت محدودة أو غدت كذلك في الحروب يولد شعورا عارما بالقهر والاستغلال يتفاقم في الكثير من الحالات ليصل لجرائم كراهية وحوادث اقتتال، كما أورد تاريخ الهجرة في أدبياته.
لذا فان العمل على تفكيك الإشكاليات الاقتصادية قد يسهم في تحقيق استقرار طويل الأمد وفي تقليل مستويات الاحتقان الاجتماعي.إن التحديات التي نواجهها تتطلب تحولًا شاملًا في كيفية تفاعلنا مع وسائل الإعلام وكيفية فهمنا للأحداث.هل يمكن أن نقلب هذا السياق السلبي؟ الجواب يكمن في توجيه جهود مشتركة نحو إعادة تعريف دور الإعلام وتعزيز قيم الصِّحافة الحقيقية. نبغي علينا جميعًا التفكير بتأثير كلماتنا وتصرفاتنا عبر وسائل الإعلام الاجتماعية، وتحويلها إلى وسيلة للتواصل والفهم بدلًا من تكريس الانقسام والكراهية، مهمة قد تبدو منهكة ومرهقة في ظل وجود مارد اعلامي يطحن بتقنياته ومنصاته وتمويله ونفوذه وصلفه روايتنا ، في هذا الجانب من العالم، لكنه ليس أمرا مستحيل التحقق.
نحن بحاجة إلى الانخراط الفعّال في إنتاج محتوى إعلامي ذكي، يلقي الضوء على تفاصيل روايتنا بشكل تحليلي ومفصل، لنشارك العالم قصتنا بشكل يعزز التفاهم ويحفز التغيير الإيجابي لكن من نافذتنا نحن، بأقلامنا نحن، وأوجاعنا ، بصدق، دون الإسراف من البكائيات وبكثير من الحنكة والنصوص التي تحمل قيما لا تفنى، كالصمود والحق والأمل.