"من أين جاء الإسرائيليون الأوائل إلى فلسطين" ندوة في عون الثقافية
24-12-2023 03:40 PM
عمون - أطلقت جمعية عَون الثقافية الوطنية مؤخراً سلسلة لقاءات حوارية مفتوحة تتضمن عقد محاضرات وندوات تُختصر حالياً على القضايا الراهنة ذات الصلة بالشأن المحلي والقضية الفلسطينية وتستضيف فيها أعضاء الهيئة العامة للجمعية.
وكانت الهيئة الإدارية قد أقرت عقد لقاء عام مفتوح لأعضاء الجمعية وحددت موعده ووقته من الساعة 5:00-8:00 من مساء كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع تعقد في مقر الجمعية الرئيسي في العاصمة عمان الكائن بمنطقة تلاع العلي-شارع سعيد التميمي-فيلا رقم (23) وقد تم تقسيم اللقاء إلى فترتين:
1-الفترة الأولى:من الساعة 5:00-6:30 تتضمن حوار عام ومفتوح بين الأعضاء
2-الفترة الثانية:من الساعة 6:30 -8:00 محاضرة لأحد أعضاء الجمعية
حيث تهدف هذه اللقاءات إلى توفير بيئة مناسبة وفرصة حقيقية للحوار العام المفتوح والتعارف بين أعضاء الجمعية والضيوف الكرام وبناء جسور الثقة بينهم والإطلاع على تجاربهم الناجحة ونقل خبراتهم الواسعة كلٍ في مجال تخصصه ونشر المعرفة وتعميمها لإستفادة الآخرين منها.حيث تعتبر هذه المحاضرات رافداً هاماً من روافد مركز عَون للدراسات والأبحاث وإثرائه بالدراسات والأبحاث المتخصصة التي سيتم نشر ما ينطبق عليها الشروط والمواصفات بمجلات علمية محكمة والمواقع الإلكترونية مما يفتح المجال أمام الجميع لنشر علمهم ونقل معرفتهم على نطاق أوسع،كما ستكون هذه المحاضرات أساساً يُعتمد بتزكية أصحابها لتمثيل الجمعية في المؤتمرات والندوات واللقاءات الحوارية على شاشات محطات التلفزة المحلية وغيرها من وسائل الإعلام المختلفة.
وضمن هذه السلسلة إستضافت الجمعية الأستاذ الدكتور زيدان كفافي عضو الهيئة الإستشارية والتوجيهية للحديث حول بحثه الذي يحمل عنوان:
من أين جاء الاسرائيليون الأوائل إلى فلسطين؟
ندوة جمعية عَون الثقافية الوطنية/إعداد وتقديم الأستاذ الدكتور زيدان كفافي عضو الهيئة الإستشارية والتوجيهية
في خضم الأحداث اليومية الجارية على أرض فلسطين عامة، وغزة خاصة، فإن عزيزاً علي تواصل معي هاتفياً وقال لي أن ابنته الصغيرة سألته من أين جاء هؤلاء اليهود الغزاة إلى فلسطين؟ وحيث أنه يعرف اهتمامتي العلمية والمعرفية لجأ إلي لمساعدته في الإجابة. فأجبته بأنني كنت أجبت على هذا السؤال في البحث المدرج عنوانه أدناه:
كفافي، زيدان 2019؛ فلسطين في العصر الحديدي الأول (1200 - 1000 ق. م). أدوماتو 39: 7-28.
لكني أدركت أن ليس كل الناس يقرأوون المجلات العلمية، فقررت أن أقدم رأياً شخصياً حول الأمر مقتبساً المعلومات الواردة أدناه من البحث المذكور أعلاه، إضافة لاستعراض الآراء الأخرى التي حاولت أن تقدم الإجابة على سؤال الطفلة. وأبدأ القول بأنه لا بد لنا من أن نفرّق بين اتباع يهودية موسى من السكان المحليين في بلاد المشرق، ويهود صهاينة هذه الأيام القادمين من أوروبا ، خاصة من الخزر (أوكرانيا) والاتحاد السوفيتي وألمانيا، ومن الولايات المتحدة الأمريكية. لذا فإن إجابتنا تتمحور حول أصل اليهود الشرقيين، ولا علاقة لإجابتنا للإشكناز من بولندا وغيرها من الأقطار الأوروبية. وحيث أن الأمر هكذا فإننا نبدأ الكلام حول أصلهم:
أصل ونسبهم العبرانيين:
من المعلوم أن اسم العبرانيين، مشتق من كلمة "عبري"، وهي ترتبط أو ترادف كلمة "يهودي"، إذ إن النصوص التوراتية، بالذات، تسمي منتسبي الطائفة اليهودية باسم "العبرانيين" استناداً إلى النصوص التوراتية (التكوين 46: 17، العدد 26: 45) فإن "عبر Heber" وأخاه " ملكائيل Malchiel " من أبناء أو من سلالة " أشر Asher" (التكوين 46: 17، العدد 26: 44-46). وعلى أية حال فقد ورد في العهد القديم (التكوين 11: 14-17) اسم "عابر" وأنه ابن "شالح" من نسل سام.
أما كلمة "إسرائيل" فإن سفر التكوين في العهد القديم (التكوين 35: 10) يبين كيف ظهرت هذه الكلمة لحيز الوجود، إذ إن الرب قال ليعقوب " لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل يكون اسمك إسرائيل". وعلى أية حال، فإن نصوص العهد القديم تظهر بأن الإسرائيليين هم من نسل إبراهيم، الذي اسمته "أبرام". وأن هذا ارتحل من "أور" بجنوبي وادي الرافدين باتجاه الشمال ، إلى مدينة "حاران"، ومن هناك توجه إلى أرض كنعان. وولد لإبراهيم ولدان "إسحق" و "إسماعيل"، وينسب لهؤلاء مجموعة من الأقوام مثل: العرب وهم من أصل اسماعيل، والإسرائيليين وهم من أصل يعقوب. ومن الجدير بالذكر، أن معظم الدراسات التوراتية تتمحور حول نسل إسحق/يعقوب، وقليل منها من يتناول نسل إسماعيل بالدراسة. كذلك لا بد من التنويه، أنه خلال السنوات الأخيرة تشكلت مدرسة تسمى "مدرسة كوبنهاغن"، ويعرف أتباعها باسم "Minimalists" أو "Revisionists"، ومن اتباعها توماس طومسون وإسرائيل فنكلشتاين، وتشكك بالمعلومات الواردة في كتاب العهد القديم.
ولا بد من القول، أن المصادر والوثائق التاريخية المكتوبة، لم تشر إلى سيدنا إبراهيم، أو حله وترحاله. علماً أن بعض العلماء التوراتيين حاولوا الربط بين ما ذكر في أرشيف تل الحريري "ماري" المتعلق بوجود قبائل بدوية رعوية وجماعة إبراهيم. كما أن آخرين، رأوا في قافلة الحمير، التي رأسها شخص يسمى "أبشاي"، المرسومة على جدران أحد مقابر "بني حسن" في مصر وتعود للقرن التاسع عشر قبل الميلاد، على أنها تخص سيدنا إبراهيم. لكن يبقى هذا كلام في الهواء ودون اثباتات علمية مؤكدة.
تذكر القصص التوراتية أن إبراهيم ذهب إلى مصر، وبقي نسله هناك مدة أربعمائة وثلاثين سنة (الخروج 12: 40). ويصف سفر الخروج بشكل مبالغ فيه كيفية خروج بني اسرائيل من مصر بقيادة موسى عليه السلام، حيث إنهم تزايدوا تزايداً كبيراً، مما شكل خطراً على الدولة المصرية. وبناء عليه قرر الفرعون المصري استعبادهم بالقيام بأعمال بنائية شاقة، وقتل الأطفال الذكور منهم. ولا نود في هذا المقام مناقشة أمر الخروج من مصر بالتفصيل، ولكننا نشير إلى أن الكتب السماوية أكدت حدوثه. ومن رأينا، إن كان قد حصل، فلا بد أن عدداً من العائلات توجهت إلى بلاد الشام، لا ذاك العدد البالغ ستمائة ألف ماشٍ من الرجال عدا الأولاد، والحيوانات، كما تشير النصوص التوراتية (الخروج 12: 37). وهذا الحدث يذكرنا بما ورد في القرآن الكريم حول قصة سيدنا يوسف، وقدوم إخوته من بلاد كنعان إلى مصر.
وتذكر قصة الخروج أن الإسرائيليين تاهوا أربعين سنة في صحراء سيناء. وأثناء هذه الفترة تسلم موسى الوصايا العشر بعد أن قابل الرب فوق جبل سيناء (علماً أن بعض الأصوات الصهيونية بدأت بنقل الحدث إلى جبل اللوز بالقرب من تبوك في المملكة العربية السعودية)، علماً أن آخرين راهنوا على أن المكان ربما يكون في موقع قادش، الذي يبعد حوالي ثمانين كيلومتراً إلى الجنوب من مدينة بئر السبع بجنوبي فلسطين. وبهذا نرى أن مكان الجبل يتحول من مكان إلى آخر بناء على الرغبة الصهيونية العالمية وأطماعها.
ويعلمنا القرآن الكريم كيف انقلب هؤلاء على سيدنا موسى، وعبدوا العجل في غيابه. ومن نافل القول ذكر أن الإسرائيليين تبنوا عدة أسماء للإله، فهناك اسم "يهوه YHWH" وكذلك الإسم "إيل El". والاسم الأخير كنعاني الأصل، وشاع استخدامه ككبير للآلهة، خلال الألف الثاني قبل الميلاد، في كنعان.
وحسب الروايات التوراتية، دخل الإسرائيليون إلى فلسطين عن طريق الأردن بقيادة يوشع "يشوع"، بعد أن توفي موسى وأخوه هارون، فوق تراب الأردن (العدد 21، التثنية 2 و 3، القضاة 11، يشوع 1-12). ولا تغفل القصص التوراتية عن وصف كيفية انتصاراتهم على الممالك والدول التي مروا بها، كما حصل مع الملك الآموري "سيحون" وتدمير عاصمته "حشبون"، التي نقبت بها بعثة أثرية أمريكية لسنوات عديدة بحثاً عن آثار تعود لزمن الخروج، لكن دون جدوى. ومن منا لا يعرف قصة نفخ الأبواق الخرافية، وتدمير أسوار مدينة أريحا على يد الإسرائيلين. هذه قصة احتلال أرض كنعان حسب الرواية التوراتية، التي أخذ بها التوراتيون التقليديون والتي اعتمدت على حروبهم مع المدن الكنعانية في فلسطين.
ذكرت أن هناك مجموعة من الآراء التي ناقشت من هم الاسرائيليين؟ وكيف دخلوا إلى فلسطين، ونلخصها فيما يلي أدناه:
1. القصص الواردة في النصوص الدينية (نظرية احتلال كنعان بالقوة):
صاحب هذه النظرية هو الأمريكي وليم فوكسويل أولبرايت وناقش أولبرايت موضوع كيفية احتلال الاسرائيليون لآرض كنعان في مقالة نشرها في عام 1935م، وعنوانها:
Albright, W. F. 1935; Archaeology and the Date of the Hebrew Conquest of Palestine. Bulletin of the American Schools of Oriental Research 58: 10-18.
وتقول هذه الروايات الدينية بأن يهود موسى هم من سلالة ابراهيم عليه السلام ، وخاصة من أولاد يعقوب الذين تركوا أرض ارافدين إلى أرض كنعان. ولن أكرر تفاصيل هذه الرحلة وكيف استقر بهم المقام في فلسطين بعد حروب دامية مع أهلها الأصليين. وبالنسبة لي فإن هذه القصة لم ترد في أي نص تاريخي حتى الآن، ولا أدري كيف أن حدثاً دينياً كهذا جاء ناسخاً لعبادة بانثيون من الآلهة لم يدون لا في السجلات الفرعونية ولا في الرافدية.
لكني استردف وأقول أن كلمة "اسرائيل" وليس "يهود" ذكرت لأول مرة في مسلة الفرعون المصري مرنبتاح ، والتي كتبها ليخلد انتصاره على الليبين في غربي مصر. إذ نشر البـــــاحث الألمــــاني فيلهلم شبيغلبيرغ (Wilhelm Spiegelberg) في عام 1896 نقشاً يخلد انتصارات الفرعون المصري مرنبتاح (1213 – 1204 ق.م.) على الليبيين وتضم الأسطر الأخيرة في النقش معلومات حول حملات هذا الفرعون على منطقة جنوب غربي آسيا. ومن ضمن المعلومات الواردة في هذا النقش ذكر لإسرائيل شعباً وليس أرضاً. وربط بعض العلماء بين هذا النص وحادثة الخروج من مصر، وحيث إن المعلومة الواردة تقول إن الحملة على ليبيا حدثت في السنة الخامسة من حكم مرنبتاح، فإنهم يرون أن الخروج تم في عام 1208 ق.م. ويرى آخرون أن المعلومات الواردة في هذه المسلة لا تخرج عن كونها تقدم معلومات عن مجموعة بشرية كانت في المنطقة خلال نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد، لا أكثر ولا أقل. وكما يشككون بمصداقية حدوث حملة عسكرية قام بها مرنبتاح في هذا الوقت على آسيا، لأنّ الأسطر التي تتحدث حول الموضوع جاءت على شكل حاشية للنص وليست ضمنه. أي أنها ربما أضيفت في وقت لاحق.
مسلة مرنبتاح
كذلك نود الإشارة إلى المصادر الفرعونية المكتوبة من الفترة اللاحقة لحكم الفرعون مرنبتاح لا تأتي على ذكر "اسرائيل" على الاطلاق.
برأينا أن قصة الأرض المرتبطة بوعد إلهي جاءت من أن بني اسرائيل لم يكن لهم بأي حال من الأحوال مستقر ووطن ثابت حسب القصص التوراتية. فهم مروا بتلك البلاد كغيرهم من الأقوام والأجناس البشرية التي كانت استقرت في بلاد الشام منذ القدم وحتى الوقت الحاضر، إن كانوا قد جاؤوا من خارجها. ومن الواجب ذكره أن القصص التوراتية ترتبط ارتباطاً وثيقا بالحديث عن المكان ولا تركز على الزمان، وذلك لبحثهم عن بقعة جغرافية تأويهم. ومن هنا فإن فكرة الحصول على الأرض لها اليد العليا فوق كل القيم والأخلاق عندهم. وأكبر دليل على هذا استخدام الزانية الساكنة في أريحا وسؤالها عن الأرض وساكنيها.وحيث أن الأمر هكذا أصبح لا بد لهؤلاء القوم وبعد تبنيهم ديانة التوحيد وهي ديانة جديدة في المنطقة، من إيجاد ملاذ لهم فتم اختراع قصة الأرض الموعودة.
2. نظرية التسرب السلمي:
صاحب هذه النظرية هو الألماني ألبرشت ألت (Albrecht Alt) والذي ناقش قضية دخول بني اسرائيل وسكناهم في أرض كنعان في مقالة نشرها عام 1925 ميلادية (Alt 1925). وطالب ألت بضرورة الاعتماد على المصادر الفرعونية المكتوبة المؤرخة للفترة السابقة للخروج من مصر لأنها تتضمن معلومات كاملة حول ما كان يجري فيها في تلك الفترة. وأكد في بحثه على ضرورة أخذ التقسيمات الجغرافية لأرض كنعان بعين الاعتبار عند الحديث حول طبيعة وحياة سكان تلك المناطق وفي مساحة المقاطعات السياسية. ويرى أن الطبيعة الجغرافية وبيئة المنطقة أثرت على التوزيع السكاني في هذه البلاد وعلى انشاء وحدات سياسية واصلت اتباع نظام المدينة- الدولة الذي ساد في العصر البرونزي المتوسط (حوالي 2000 - 1550 ق.م.). لكنه اختلف في العصر البرونزي المتأخر (حوالي 1550-1200 ق.م.) في أن الفرعون المصري هو الذي كان يعين حكام المدن ، إضافة إلى وجود مندوب سامي مصري في المدن الكبرى. كذلك فقد تركزت دويلات المدن في فلسطين في المناطق الساحلية والسهلية، بينما قلت في المرتفعات الجبلية. ونتيجة لوعورة المناطق الجبلية صعب على الفراعنة السيطرة عليها عسكرياً، مما دفع إلى استقرار مجموعة من القبائل البدوية فيها بسبب توفر المراعي، وهذا الأمر أدى إلى أن تطلق كل قبيلة اسمها على المنطقة التي استوطنت فيها، وهذا ما يتماشى مع النص التوراتي، خاصة في أسفار القضاة ويشوع وصموئيل. ويؤكد "آلت" على أن هذه القبائل استمرت في الاستقرار في نفس المناطق خلال العصر الحديدي (حوالي 1200 - 586 ق.م)، لكن وبعد ن استقر بها المقام في بعض مناطق المرتفعات الجبلية أخذت تهاجم المراكز الحضارية الكنعانية ، مثل تل وقاص في سهل الحولة.
اقترح الألماني (مارتن نوت) أن التسرب السلمي تم بقيادة أكبر القبائل اليهودية التي تواجدت أنذاك في شرقي نهر الأردن، ثم دخلت وسكنت تدريجياً في المرتفعات الجلية الواقعة غربي النهر (Noth 1948: 51, 71-74; 1958: 53-68). وأيد هذه الأفكار والمقترحات مانفريد فايبرت Manfred Weippert)) الذي قال أيضاً بأن القبائل اليهودية توحدت بعد دخولها أرض كنعان والاستقرار فيه، لكنه لم ينكر أنها هاجمت المدن الكنعانية رغبة منها في التوسع فخسرت بعضها وربحت البعض الآخر. ملخص قول نظرية التسرب السلمي أن القبائل الاسرائيلية دخلت إلى المناطق الوعرة والخالية من السكان أولاً، وتعايشت مع الكنعانيين بشكل سلمي، لكن ولما استقر لها الأمر وقويت شوكتها أخذت تهاجم المدن الكنعانية في المناطق السهلية والساحلية. لكن الحال لم يستقم لها مع المدن الكنعانية الساحلية فلم تستطع السيطرة عليها، لذا بقيت محصورة في مناطق المرتفعات الجبلية.
3. . نظرية الثورة الاجتماعية:
صاحب هذه النظرية هو الأستاذ الدكتور جورج مندنهول (George Mendenhall)الذي عمل استاذاً في جامعة ميتشغان آن آربر(Michigan An Arbour)، كما عمل استاذاً زائراً في جامعة اليرموك/ الأردن ، قبل وفاته. إذ درس مندنهول الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتغيرات المجتمعية التي حصلت في الفترة بين نهاية العصر البرونزي المتأخر وبداية العصر الحديدي (حوالي 1300 -1200 قبل الميلاد). وانتقد مندنهول نظريتي الاحتلال بالقوة والتسرب السلمي لربطهما بين التاريخ القديم والحديث. وقال أن لا فرق كبير بين النظريتين لأنهما تقولان بأن بني اسرائيل دخلوا لأرض كنعان من خارجها، وأن الطابع البدوي القبلي هو الذي ساد بين القبائل الاسرائيلية، وأن الرابط بين هذه القبائل أنها تنحدر من عرق واحد، سلالة ابراهيم ثم اسحق ثم يعقوب، ونسبها هذا جعلها مختلفة عن السكان الكنعانيين، سكان البلاد الأصليين. وعلماً أنه لا يمانع بأن تماسك القبائل كان على أساس عرقي وأنها جاءت من خارج أرض كنعان، إلاّ أنه يرى أنها لم تكن بدوية بسبب طبيعة الحياة البدوية التي تعتمد التنقل ومن هنا تضعف الرابطة الاجتماعية بينها.
وحول ظهور الاسرائيليين إلى الساحة بأرض كنعان ينفي حدوث أي هجوم شامل على أرض كنعان من قبل الاسرائيليين أدى إلى طرد أصحاب الأرض، وحدوث تغيير ديموغرافي كلّي فيها، ويجادل بأن ما حدث لم يخرج عن كونه ثورة للفلاحين في المدن ضد أوضاعهم المعيشية خلال نهاية العصر البرونزي المتأخر (حوالي 1200 قبل الميلاد). ومن المعلوم أن المدن الكنعانية كانت خلال هذه المرحلة في صراع دائم فيما بينها، بشهادة رسائل تل العمارنة،مما أدى إلى تراجع الطبقة الاجتماعية الدنيا. أدت هذه الصراعات إلى تدهور الأحوال المعيشية، فتوحدت من بينها مجموعة من القبائل، لكن ليس على أساس عرقي، بل ربط بينها دين واحد جديد، هو عبادة الإله "يهوه". أدى هذا بالتالي لظهور القبائل الاسرائيلية الرافضة لما كان سائداً من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية، لأول مرة في التاريخ. دفع هذا الأمر عدداً آخر من الناس للدخول في الدين الجديد، فزادت مع الزمن قوتهم، مما دفعهم لمهاجمة النظام السائد (دولة المدينة) فهاجموا بعض المدن الكنعانية للتحرر من الظلم الذي حاق به. ومن هنا نطرح سؤالاّ: إذا كان الرابط الذي جمع هذه القبائل هو الدين وليس العرق؟ فإذن كيف تتحدث المصادر التاريخية، سواء الرافدية أو الفرعونية، عن وجود عرقية جمعت هذه القبائل؟
يجيب مندنهول على هذا التساؤل بالقول أنه بعد التحرر من النظام السياسي الذي كان قائماً، ووحدة المصلحة المشتركة التي جمعت هذه القبائل، بدأت تظهر للوجود مع مرور الوقت العرقية التي ولّدت بين أفرادها الشعور بالتميز، وبالتالي العرقية. لكن مندنهول يستردف بأن الاسرائيليين أتباع الإله "يهوه" تشكلوا من عائلات متعددة ومختلفة، بل أن لهجاتهم مختلفة، لكن الذي جمعهم هو الإله الواحد ورفض النظام السياسي القائم على أن كل مدينة تحكم نفسها بنفسها. ويضيف بأن نشوء دولة اسرائيل الموحدة كان نتاجاً لما حدث في بلدان الشرق الأدنى القديم من انهيار للاميراطوريات في وادي لنيل، والرافدين، والأناضول. ,ان أصل القبائل الأثنتي عشر هو كنعاني بدليل أن لغتهم تنحدر من أصل سامي، وهو أصل اللغة الكنعانية واتباعهم نفس النمط الاقتصادي الذي ساد أرض كنعان.
4. نظرية المجتمعات الرعوية في نشوء اسرائيل الفلسطينية:
قام الباحث الاسرائيلي "اسرائيل فنكلشتاين" بعد احتلال اسرائيل للضفة الغربية في عام 1967ميلادية باجراء عدد من المسوحات والحفريات الأثرية فيها، وأهمها المسح الأثري في منطقة مدينة رام الله. واعتمد في منهجه البحثي في دراساته الميدانية منهجاً مختلفاً عن منهج الباحثين التوراتيين التقليديين. فإذا كان مؤسس المدرسة التوراتية "وليم أولبرايت" قد اعتمد الربط بين دراسة الفخار والطبقات في المواقع الأثرية منهجاً لاستخلاص تاريخها، وماهيتها؛ فإن فنكلشتاين اعتمد التعرف على أنماط السكنى أساساً في اشتقاق هذه المعلومات. ووضح هذا الأمر عندما نشر نتائج أعماله الميدانية عام 1988م بعنوان:
The Archaeology of the Israelite Settlements.
اعتمد "فنكلشتاين" في تفسير ظهور دولة اسرائيل الفلسطينية على وجود المجتمعات الرعوية التي تواجدت في مناطق التخوم الفاصلة بين الصحاري والمناطق الصالحة للزراعة.وفسّر هذا بالقول أن القبائل الرعوية كانت على تماس متواصل مع مجتمع المدينة ومكمل له من النواحي الاقتصادية والاجتماعية، فاصطبغت هذه العلاقة بطابع سلمي وليس عسكري. وللتعرف على كيفية هذا التعايش كان لا بد لفنكلشتاين من العودة للمصادر التاريخية المكتوبة، ودراسة المادة الأثرية المكتشفة، وأخيراً المقدرة على التمييز بين أنماط الاستيطان لمجتمع الرعاة عنه للمجتمعات المتحضرة.
أما بخصوص المصادر المكتوبة، فمن المعروف أن المصدر المكتوب الوحيد لدراسة المجتمع الاسرائيلي خلال الفترة بين 1200 و1000 قبل الميلاد هو كتاب العهد القديم، إذ غابت المصادر الفرعونية والرافدية والمحلية عن ذكر كنعان والأحداث التاريخية التي جرت فيها خلال هذه الفترة. وبرأيه أن المعلومات الواردة في كتاب العهد القديم لا تفيد كثيراً من هذه الناحية لأنها كتبت في فترة متأخرة عن فترة موسى (عليه السلام)، أي الزمان الذي حدثت فيه الأحداث الفعلية لبني اسرائيل؛ لذا لا بد من الاعتماد على دراسة الآثار وطبيعة الاستقرار والسكنى في المواقع الأثرية (Finkelstein 1988: 336-337). وأفاد فنكلشتاين أن الآثار المؤرخة للعصر الحديدي الأول لا تختلف كثيراً في طبيعتها وتقنياتهاعن آثار نهاية العصر البرونزي المتأخر، على الرغم من دخول مجموعات بشرية جديدة لأرض كنعان،مثل، قبائل شعوب البحر. ويرى أن الاختلافات في أشكال وتقنيات الأدوات والأواني الأثرية تعتمد كثيراً على العوامل الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، في أكثر الحالات. لكنه يستردف، ويذكر، بأن المادة الأثرية المكتشفة في المراكز الحضارية الكنعانية تختلف في ماهيتها وأشكالهاعن تلك التي تخص الاسرائيليين الرعاة (Finkelstein 1988: 338).
خلاصة رأي فنكلشتاين، يرى أن الاسرائيليين كانوا في الأساس من جذور كنعانية، ولم يستبعد دخول مجموعة أخرى جاءت من مصر ودخلت من جنوب كنعان وانضمت إلى الأولى. وأن هؤلاء كانوا يعيشون في المناطق المناسبة للرعي المحاددة للمراكز الحضارية، ولكنهم كانوا على تواصل مع بعضهم بعضا، فأقاموا معها علاقات اقتصادية. لكن هؤلاء الرعاة أخذوا مع نهاية العصر البرونزي في الاستقرار، واحتاجوا لما يقارب من المائتي عام ليؤسسوا ما عرف باسم "دولة اسرائيل" . وبرأيه أنهم توزعوا في بادئ الأمر في مناطق نابلس ورام الله، والجليل الأسفل، والنقب، وانتشروا في بقية مناطق فلسطين في مراحل زمنية متأخرة. ونتيجة لزيادة السكان في مستقراتهم الأولى، وحاجتهم لمناطق زراعية أوسع، اضطروا إلى الصدام العسكري مع المدن والقرى الكنعانية. نتيجة لهذه الصراعات، والقتال مع شعوب البحر الذين استقروا في الجزء الجنوبي من السهل الساحلي الفلسطيني، اضطرت القبائل الاسرائيلية المتباعدة إلى الوحدة ، وتأسيس الدولة الموحدة في القرن العاشر قبل الميلاد (Finkelstein 1988: 350-351). ولقد أكد فنكلشتاين في سنوات لاحقة لنشره نظريته في عام 1988 ميلادية مع إضافة بعض الشروحات المستفيضة، أو التعديلات البسيطة ، مثل، أنه ومع مرور الزمان يصعب التفريق بينن المستقرات الحضارية والأخرى التي تخص المجتمعات الرعوية .
دول جنوبي بلاد الشام السياسية في الألف الأول قبل الميلاد حسب النص التوراتي
(عن الويكيبديا)
خاتمة:
وجدنا بعد دراسة هذه النظريات مجتمعة أنها لا تبعد كثيراً عن بعضها بعضا، فهي تختلف فقط فيما إذا كان الاسرائيليون الأوائل من أبناء المنطقة أم لا؟ لكنها تتفق جميعها على أن طبيعة هؤلاء القوم هي البداوة ورعي الماشية. و يدعم هذا الأمر ما ورد في الكتب السماوية ومنها القرآن الكريم (سورة القصص). إذ تذكر التوراة أن سيدنا موسى عليه السلام هرب من مصر إلى منطقة "مدين" الواقعة في جنوبي بلاد الشام وتمتد إلى شمال-غربي الجزيرة العربية، خوفاً على نفسه من الفرعون، إذ ورد في سورة الأعراف الآية 85 ما يلي:
"وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ". واستقر به المقام عند نبي الله "شعيب" الذي زوجه واحدة من بناته المدعوة "العصفورة أو صفورية"" وهي التي نصحت أباها أن يستأجره لأنه "قوي أمين" حسبما ورد في القرآن الكريم:
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [5](سورة القصص، الآية 26).
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [5](سورة القصص،الآية 27).
وبعد أن مكث موسى عدداً من السنين في مدين غالبه الحنين إلى مصر، فقرر العودة إليها مع زوجته وأهله الذين كانوا معه في مدين. ويورد القرآن الكريم ما حدث له في طريق العودة، وعلى النحو الآتي:
إذ ضل الطريق إلى مصر، لكن وبعد أن وصل جبل الطور بسيناء، هداه الله تعالى إلى الطريق الصحيح " إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [7] (سورة طه، الآية 10) أي: من يدله على الطريق إلى مصر . فلما أتى موسى النار من جانب الشجرة المباركة، سمع نداء: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [8] سورة طه، الآيتين 12-13.
فأوحى الله له ما أوحى، وكلّفه أن يحمل الرسالة إلى الطاغي فرعون، وأعطاه الله الآيات، وطلب موسى من ربه أن يرسل معه أخاه هارون، ليكون له ردءاً، وأثنى موسى على أخيه بين يدي ربه بأنه أفصح منه لساناً، وأضاف موسى و قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [9] سورة القصص، الآيتين 33-34.
فقال له الله عز وجل: قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ 35.
وبعد أن عاد موسى إلى مصر من "مدين" أخذ معه زوجته إلى هناك. لكن وبعد أن صعب عليه وأهله العيش خرج منها ومعه أقاربه مع نهاية القرن الثالث عشر قل الميلاد (أي في حوالي 1200 قبل الميلاد) عائداً إلى أهل زوجته في مدين. ونعتقد أن العدد الذي ذكرته التوراة مبالغ جداً فيه، وأن العدد لم يتجاوز بعض المئات من الناس على الرغم من الرقم الذي ذكرته الوراة (600 ألف شخص):
35" وفعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى. طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا
36 وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم. فسلبوا المصريين
37 فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سكوت، نحو ست مئة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد
38 وصعد معهم لفيف كثير أيضا مع غنم وبقر، مواش وافرة جدا"
(الخروج 12: 35-38)
ويؤكد القرآن الكريم على أن الذين اتبعوا ديانة موسى هم نفر من قومه، أي يعني عدداً قليلاً، ولا يمكن أن يكون قد وصل عددهم أكثر من نصف مليون شخص ما ورد أعلاه. إذ ورد في سورة يونس الآية 83 مايلي:
"فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ"
عاد موسى إلى"مدين" ومعه أقاربه، لكنه رجع بدين جديد موحد، أخذ ينشر تعاليمه بين القبائل البدوية ، ومنهم قبيلة "الشاسو" التي ذكرتها المصادر الفرعونية، والتي كانت تسكن جنوبي بلاد الشام وشمال غربي الجزيرة العربية. وكانت هذه الأقوام بغض النظر عن جنسها أو نسبها تشكل حلقة وصل بين مصر وبلاد الشام والجزيرة العربية، وعلى تواصل من خلال التجارة وغيرها. لكن اختلفت هذه القبائل عن محيطها بدينها، فهي تتبع دين موحد، آمنت به اثنتا عشرة قبيلة من القبائل البدوية الموجودة في هذه المنطقة المتوسطة. وتعايشت مع محيطها في الفترة السابقة لتحطيم الامبراطوريات الفرعونية والحثية والكاشية في حوالي 1200 قبل الميلاد. أدى هذا التحول السياسي، وتراجع الاحتلال الفرعوني والحثي عن بلاد الشام ، بشكل خاص، إلى ظهور دويلات وثنية متعددة مستقلة، منها الدول الآرامية، والعمونية، والمؤآبية، والأدومية، وشعوب البحر. أدى هذا الأمر بأن تشعر القبائل البدوية التي آمنت بالدين الموسوي الموحد أن تشعر أنها في خطر من ظهور هذه الوحدات السياسية، فدعت إلى الوحدة فيما بينها، وبحثت لها عن مستقر آمن. وحيث أنها لا تستطيع مقابلة الدول القوية في المنطقة، قررت الذهاب إلى المنطقة الأضعف عسكرياً، وكانت كنعان بمدنها المتحاربة مع بعضها بعضا. فتسللت إليها سلماً، حتى استقام لها الأمر. وبعد أن قويت شوكتها سيطرت على مساحة صغيرة من أرض كنعان، ولمدة قصيرة جداً (حوالي سبعين عاماً).
إذن نعتقد أن العامل الديني، وعدم وجود وطن قومي ثابت على مدى الدهور، وضعف دويلات المدن الكنعانية في فلسطين هو الذي أدى إلى استلام هذه القبائل المحلية اليهودية إلى أرض كنعان.
تذكر المصادر الدينية أن الاسرائيليين استقروا فيما يعرف اليوم باسم فلسطين. ولا عجب إذا ما قلنا إن هؤلاء القوم لم يخرجوا عن كونهم مجموعة من الناس شكلت قسماً من المجتمع الكنعاني الذي عاش في بلاد الشام خلال العصور القديمة، لكن كانت لهم خصوصيتهم الدينية والاجتماعية عن باقي المجتمعات الكنعانية. وتقلبت عليهم الأزمان والظروف كغيرهم من أبناء المنطقة، فهاجروا، وتاجروا، وأسسوا دولة لم تستقم لها الأيام طويلاً، فاختفت عن مسرح الأحداث في زحام الأمبراطوريات المتصارعة في المنطقة، مثل: الآشورية، والكلدانية، والمصرية، والفارسية. فغابوا عن الساحة آلاف السنين، واختفى العبرانيون الأوائل في ثنايا الأيام.
ونحن هنا لا نرى أي رابط يربط العبرانيين والإسرائيليين الأوائل، وصهاينة هذه الأيام. فالأوائل هم أبناء هذه المنطقة، آمنوا برسالة موسى عليه السلام، ولا اختلاف بيننا وبينهم إلاّ في الديانة (علماً أنها سماوية أيضاً). أما صهاينة العصر الحديث، فلا يجمعهم سوى العقيدة الدينية، فهم من أعراق وأجناس متعددة، لم يضمهم مكان واحد في يوم من الأيام، ولا يربطنا بهم أي رابط. وعلى هذا الأساس، فإن ما نورده من معلومات لا يجب أن يربط بأي حال من الأحوال بدولة إسرائيل العنصرية الصهيونية الحديثة، ولكن يجب أن يعدّ حلقة من حلقات تاريخ بلادنا العربية، وللعرب فيه إن لم يكن كل الحصة، فهو السهم الأكبر.
رأي خاص (زيدان كفافي):
حملت الحركة الصهيونية العالمية منذ انشائها التوراة بيد، معلنة حقها في أرض كنعان، وقالت هذا وعد إلهي على العالم أن يساعدها في تنفيذه، لكن ماذا فعلنا نحن العرب بالمقابل. لقد أصبحنا نتشنج عندما نسمع كلمة "يهود"، لكن من ينكر أن أتباع موسى وداود وسليمان هم من أهل هذه الأرض. أليس من الأولى لنا أن نقول أن دين وتراث اليهود الأوائل ، وحتى الدولة الاسرائيلية الموحدة التي ظهرت في الفترة بين حوالي 1000 - 923 قبل الميلاد، ودولتي "السامرة" و "يهوذا" هي لنا وليس للصهاينة، وهذه الدويلات قامت فقط على أجزاء من فلسطين الجغرافية، وليس على كامل ترابها. باعتقادي أن علينا الآن أن لا نخسر موسى وداود وسليمان، فهم أبناؤنا، ولا الديانة اليهودية التي قامت على أرضنا، نحن أحق بها من الصهاينة الذين جاؤوا من روسيا وأوروبا وأمريكا. لقد اتبع صهاينة هذه الأيام مناهج متعددة لتفسير الوعد الإلهي، ولتحقيق مآربهم، لكن العرب، وللأسف، اكتفوا بالرفض، والشجب، ولم يسعوا إلى متابعة ما يكتب حول هذه القضية. إلى متى يا رب...نبقى مقلّدين نردد كالببغاوات ما يقوله الآخرون... لماذا لا نكون مبدعين؟ ولا أعلم لماذا يفرح الناس عندما يقولون دون أساس أن هناك تراث حضاري كنعاني وآخر اسرائيلي، ويصرون أن الأول أقدم من الثاني، لذا لا حق لصهاينة في فلسطين الحالية. لا يا سادة لا يوجد لا تراث كنعاني ولا اسرائيلي، بل ما هو موجود هو تراث محلي، له تاريخ متصل منذ أقدم العصور وحتى الحاضر، نشأ فوق الأرض الفلسطينية، ولا علاقة للصهاينة به.
مراجع مختارة:
Albright, William Foxwell 1939; The Israelite Conquest of Canaan in the Light of Archaeology. Bulletin of the American Schools of Oriental Research 74: 11-23.
Finkelstein, Israel 1988; The Archaeology of the Israelite Settlement. Jerusalem: Israel Exploration Society.
Lemche, P. N. L. 1985; Early Israel: Anthropological and Historical Studies on the Israelit Society before the Monarchy. Leiden: E. J. Brill.
Mendenhall, George 1962; The Hebrew Conquest of Palestine. Biblical Archaeologist 25/3: 66-87.
Mendenhall, George 1973; The Tenth Generation: The Origins of the Biblical Tradition. Baltimore: John Hopkins University.
Noth, Martin 1958; The History of Israel. New York: Harper and Row.
Weippert, Manfred 1971; The Settlement of the Israelite Tribes in Palestine. Translated by J. Martin. London SCM Press.