في مسألة الاتفاق والوفاق العربي قضايا كثيرة تستحق المراجعة، قضايا خلافية أو اتفاقية، قضايا تتوه بين أصغر الفكرة وأعظم الهدف، تارة تجمع وفجأة تقطع، وفي الحالتين ما زلنا نلاحق الأحلام كشعوب، تارة نغني “أمة عربية واحدة”، وتارة نعزف “رسالة عربية خالدة”، ولكن ما نعيشه ونشاهده على مسرح الحياة “خلاف ومصالح بالية”!
أعلم أن قمما عربية عقدت، وبروتوكولات رسمية رسمت ومؤتمرات نقاشية جدلية لا تنتهي، أعلم أن هناك مشاريع دعمت، وخططا مشتركة كتبت، واتفاقيات أبرمت، أعلم أن البعض ما زال يملك الأمل- وأنا منهم، ولكن لنكون واقعيين ونعترف أنها تنتهي بانتهاء مراسم افتتاح أي فعالية! لا تستغربوا فنحن حتى في الغناء والطرب لسنا على وفاق، فهل نجتمع على قضية مصيرية؟
في الدور الأردني ومنذ عقود كانت الدعوات للوفاق والاتفاق هي الأبرز، وكان مؤتمر القمة العربي غير العادي الذي عقد عام 1987، إبّان حكم المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه، لقاء قمة غير عادي بالمعنى الحرفي، لأن المؤتمرات السابقة كانت تُعقد للاتفاق على مواقف موحدة إزاء مشكلات محددة في إطار توفر حدّ أدنى من الوفاق القومي، أما تلك فعُقدت في غياب ذلك الحد الأدنى، فبين ضرورة توفير الوفاق القومي كانت هناك ضرورة ضمان الاتفاق على مواقف موحدة، قمة 1987 غابت فقط مصر عنها، مؤتمر هو الوحيد الذي حمل اسما وهدفا أكبر، هو الوحيد الذي عُرف باسم “قمة الوفاق والاتفاق” ألقى فيه جلالة الملك الحسين طيب الله ثراه ثلاثة خطابات، بدأت بأهمية استعادة التضامن العربي وتطوير العمل العربي المشترك وإن أشدّ مصادر الخطر والتهديد فتكاً هو الفرقة والتناحر، وفي الثاني قال إنّ المشاكل التي تواجهها الأمة تتطلب صراحةً غير عادية، وفي كلمته في الجلسة الختامية للمؤتمر دعا الراحل الكبير إلى أن تكون المصارحة والمكاشفة سبيلَ القادة العرب والسلوك الذي يتبعونه في علاقاتهم، لسدّ الطريق أمام سوء الفهم ومضاعفاته وتراكماته. واليوم ودون انقطاع يستمر جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين حفظه الله بذات الهمة والرسالة والغاية بل والوضوح الأكبر والمباشر لإعادة الوفاق والاتفاق، فأين العرب من تلك وذاك؟
واقع الوفاق العربي لا يتجاوز نموذج إدارته “ملهي الرعيان”، ولمن لا يعلمه هو طائر مراوغ يظهر في البراري وخصوصاً في مواسم الحصاد – كما هو موسم القضايا الحاسمة عربيا-، يظهر فجأة لرعاة الغنم، يطير ويتنقل لمسافات قصيرة (لا يطير بعيدا ولا يمكنك مسكه بالأيدي) يراه الراعي ويهم بالقبض عليه ويفشل معتقداً أنه سهل المنال، ثم يطير إلى مسافة قصيرة أخرى، يتبعه الراعي وهكذا يستمر ويتنقل، يتبعونه متناسين عملهم وأرزاقهم خلفهم لمسافات بعيدة، واهمون يركضون خلف أحلامهم ومصالحهم ظنا بأنهم سيمسكونه، يغافلهم الذئب المحتل وكأن بينهم اتفاق (طائر يلهيهم وذئب يعبث فيهم) ليبقى الذئب دائما يفتك والرعاة يركضون خلف الوهم!
اليوم ومع وضوح انعدام الدور والوفاق العربي اتجاه قضايا كثيرة وأبرزها القضية المركزية فلسطين وعلى أرض غزة بالتحديد، ومع ما يثقل الكاهل الأردني من أي نتائج سابقة وحالية ومستقبلية وكأنه وحيد في كل مواجهة وموقف، يستمر راعيا وسندا بإجراء خطوات حقيقية نحو فلسطين، نرى جليا – ملهي الرعيان- من دوره في تضليل الاتفاق العربي إلى دوره أردنيا داخليا في أكثر من صورة وشكل وموقع يتنقل مشككا بين الغرف المغلقة خارجيا أو داخليا، وبين الحدود والواجهات الأردنية مع المحيط حولها، نراه في الأسواق والميادين العامة، نقرأه على منصات التواصل والأوراق الصفراء، ولكن نقول– لملهي الرعيان- ستبقى فلسطين وغزة أولوية وهمّ كل أردني، وسيبقى الجيش والقائد والشعب يدا وفكرا في حماية الوطن ومقدراته والوقوف بوجه كل عابث وكاره، وستبقى الأردن عصية على- الذئب - كان من كان، وستبقى الأعين والزنود والبنادق جاهزة نحو صون وحماية تراب الوطن، نعم؛ سنبقى نتطلع لوفاق واتفاق وقرار عربي جريء، ولكن لن نلاحقه كحلم، بل نعمل على إنجازه داخليا أو مع من يتقدم عربيا بالحرص والوعي الحقيقي فقط.
الغد