تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها (4)
د. نبيل الكوفحي
21-12-2023 09:45 AM
*دروس من غزة
تعلمنا من التاريخ انه ليس ضروريا ان الدروس والحكم دائما من أصحاب الالقاب والحضور السياسي او الاجتماعي أو اصحاب الشهادات، كما لا يرتبط الكرم والجود دائما بالغنى والمال. فكم من حدث ودرس او حكمة و مثل كانت من أناس لم يكونوا في عداد كبار المجتمع، كما ان كثيرا من التبرعات المؤثرة لم تكن من أصحاب المال.
تعلمنا غزة وأهلها ومقاوموها ان العزة والكبرياء لا ترتبط بكثرة عدد ولا عدة، ولا قدرات عسكرية ولا علاقات دولية، كما لا ترتبط ايضا بحماية حلف اقليمي او عالمي ولا لوجود زخارف ولا بهارج دنيوية. ان العزة والكبرياء ترتبط قطعا بالايمان بالله وحده وان الضر والنفع بيده سبحانه، يقول تعالى (ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُون)، وان اقصى ما يخشاه كثير من البشر الموت، انما هو في عرف أهل غزة وأبطالها الشهادة في سبيل الله وتمثل أسمى الاماني، وهو اصطفاء من المومنين ( ويتخذ منكم شهداء).
وان الغنى هو غنى النفس، وكم من صاحب مال بخيل النفس، وكم من فقير حال غني النفس. ان عموم أهل غزة يعلمون الناس العزة، حتى الف الناس القول الذي اصبح مثلا: غزة العزة، وان حالة الكبرياء التي يعيشونها وهم يعانون الموت والجراح والتهجير والجوع انما هي كبرياء المؤمن الذي لا يركع الا لله، وليس تكبر اصحاب النفوس المريضة الذين ينطبق عليهم: أسد علي وفي الحروب نعامة … . يقول تعالى واصفا عباده المومنين (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين).
ان حجم الالم الذي يصيبهم كبير وعميق، لكنه ليس بالذي يدفع لرفع الراية البيضاء، وليس بالذي يجعلهم يطأطون الرؤوس، بل يجعلهم يزدادون صبرا وعزيمة واصرارا على الاستمرار، شاهدنا ذلك في مئات الامهات يودعن فلذات اكبادهن، كما شاهدناه في البطل وائل الدحدوح يودع شهدائه ويعود مجاهدا بمتابعته للعدوان، وشاهدناه بخالد - الرجل ذي العمامة - يودع " روح الروح" ويعود رافعا للمعنويات ، وشاهدنا الشيخ المهيب بعد مجزرة المستشفى المعمداني وقد فقد اهله يقول لغيره ( ما تعيطش يا زلمة كلنا شهداء الشهيد يشفع في سبعين من أهله)، والامثلة أكثر من أن تحصى.
اهل غزة هم بشر مثلنا، لكنهم مسلمين توكلوا على الله، فهموا الاية الكريمة ( وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرً). ويعلموا ان الله عز وجل يسمع ويرى، وان ما يصيبهم انما هو اختبار الايمان ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ).