أعذروني أحبتي القراء على هذا الموضوع والعنوان، ولكن ما دفعني لكتابته الصور والفيديوهات المأساوية التي اشاهدها في فلسطين عامة وقطاع غزة خاصة ونحن نشاهد في قطاع غزة مشاهد مرعبة للحرب الصهيونية الغاشمة على قطاع غزة العزة ولكنني أحببت في هذا المقال أن أكتب في شأن لم ينتبه إليه الكثيرون واعطاء كل ذي حق حقه ،ولكنه سيثير عند الكثير بعد أن يقرأ المقال التفكير بما وصلت إليه الأمور، فقد تبين للقاصي والداني أن الوفي الصامت هو ذلك الحيوان الصبور، والذي أخذ اسمه المتعارف عليه بين الناس للوفاء والعمل بلا كلل أو ملل أو حتى صوت، وهو الوحيد في ظل هذا الحصار المطبق الذي يتعرض له قطاع غزة وحرمانه بشكل رئيس من الوقود لسيارات شحن المساعدات وتدمير سيارات الإسعاف التي كان يمكن أن تنقل الشهداء والجرحى لولا استهدافها إلى جانب الأطباء والصحفين وكل أبناء الشعب الفلسطيني، كما هو الحرمان من الغذاء والدواء لأبناء الشعب الفلسطيني المقاوم والصامد، وافتقار القطاع المحاصر لكل مقومات الحياة.
الحمار هذا الوفي الصامت والبطل الذي كان كعادته صامتًا صابرًا، ينقل الجرحى على عربته المتواضعه ويخترق كل مواقع الخطر دون خوف ولذلك اسميته بالبطل .
ذلك الحيوان الذي ينظر إليه الكثير بالسخرية ولكن يجب ان يقام له تمثالا يسمى تمثال الصبر للحمير لأفضالها على البشر، ومع ذلك فقد دأبنا على احتقارها واتهمناها بالغباء، ورحنا نصف أي شخص متخلف وعاجز بأنه حمار والحمار بعيدًا عن ذلك ولا أعمم، وهي صفة أصبحت عالمية، فتسمع الإنجليز يصفون إخفاقات القضاء والشرطة فيقولون «القانون حمار»، وقد تساءلت مراراً لماذا خصصنا الحمار بهذه التهمة وهو أكثر وفاءً ممن وصفه؟ .
وانتهيت إلى هذا الجواب: الحمار غبي لأنه يخدمنا! ، فلو كان عنده ذرة من العقل لذهب وخدم غيرنا أكثر رقة وعطفًا منا.
بعد هذا الإستطراد الذي لا يوجد له أي مبرر، أمضي إلى هذا التراث الحماري فأقول إن هذا الحيوان يتردد في كثير من الأمثلة الشعبية من ذلك قولنا «حمارة شهبندر التجار » ويضرب هذا المثل للإشارة إلى نفاق بني الإنسان وسوء قصدهم وتزلفهم لذوي السلطة والجاه والثروة، ونجد معناه حين كان كبار الأثرياء يتسلطون باستعمال الحمار بأمر شهبندر التجار بأن تحمل جثة خادمته على عربة حمار بعد أن ماتت إلى خارج المدينة وإلقائها هناك لتأكلها الوحوش والكواسر، وربما الفقراء من الناس أيضاً!..
وما أن سمع الجمهور بذلك حتى بعثوا وفداً إلى شهبندر التجار ليأخذ ليواسيه على ما فقده، ولكنه في غزة مثال للطيبة والوفاء والعمل المضني.
لقد أشاد رئيس الوفد الذي ذهب للشهبندر في الإشارة إلى مزايا الفقيدة وحسن سيرتها وعظيم فضلها وتوسل إلى الشهبندر أن يستجيب لطلبات الجمهور بتشييعها بما تستحقه من المراسم والاحترام والتبجيل، وهو ما كان، وكانت المناسبة الوحيدة التي استجاب فيها الشهبندر للجمهور.
حملوا الحمارة على عربة مدفع ومشوا وراءها في موكب امتد من مشارق الأرض إلى مغاربها، وأغلقت كل الدكاكين في المدينة، وتعطلت المدارس، ولبس الناس الحداد وسبلوا السبيل حتى واروها التراب بين أعيان البلد ومشاهيره وكبار شعرائه.
وكلما سأل سائل عن الجنازة وسرّ كل هذا الاهتمام والإحترام، أجابوه وقالوا: «إنها حمارة الشهبندر وحمارة الشهبندر عزيزة»!.
بعد سنة واحدة بالضبط من موت حمارة الشهبندر، وذلك التشييع المهيب الذي لم يشهد له البلد مثيلاً، مات حضرة الشهبندر نفسه، ولم يخرج لدفنه غير حارس بيته المحكمة ومأمور أملاكه، وقاموا بدفنه في أحقر تربة في أقرب مقبرة، لكن أهل تلك المدينة ظلوا يرددون فيما بينهم: الشهبندر نفسه لا شيء، لكن «حمارة الشهبندر عزيزة»، وسار القول مثلاً يردده الناس إلى يومنا هذا.
ايها الحمارُ بما ظُلمت وأنت أول الأصدقاء.. قد تكون هذه عبارة تُلخص النظرة السلبية التي يُلقيها عامة الناس على الحمار رغم مُميزاته الكثيرة، إذ اقترن هذا الحيوان بصفات كالغباء والعناد، وننصحكم بعد تجربة غزة بدراسة جديدة في رسم تاريخ العلاقة بين الإنسان والحمار الأليف الذي انتقل إلى مصر وساهم في بناء الحضارة الفرعونية، كما قدّسته حضارات أخرى غير عالمين بما سيحققه في قطاع غزة المحاصر بعد ذلك بقرون .
كثيرة هي الصور والفيديوهات المأساوية القادمة من قطاع غزة الذي يتعرض لإبادة ومجازر ترتكبها قوات الاحتلال بشكل يومي، ناهيك عن الحصار الإسرائيلي المطبق الذي أجبر سكان القطاع على الاستعانة بوسائل بدائية في مختلف أوجه الحياة كان أهمها الحصار الصابر.
ومن بين صور المعاناة هذه، كان لافتا اعتماد أهل غزة على العربات التي تجرها الحمير في تنقلهم بسبب شح أو حتى ندرة الوقود التي لا يعاني منها الناس فحسب، بل تهدد المستشفيات بالتوقف عن العمل.
العربات التي تجرها الحمير باتت شائعة في القطاع وتحولت لوسيلة نقل أساسية في ظل فقدان الوقود للسيارات.
كما تستخدم هذه العربات لحمل أمتعة المتجهين نحو معبر رفح الحدودي مع مصر، بعد أن بدأ العشرات من حاملي جوازات السفر الأجنبية المحاصرين مغادرة القطاع.
العربات التي تجرها الحمير باتت أيضا الوسيلة الوحيدة لنقل العبوات والقناني المليئة بالمياه بسبب توقف المحطة الوحيدة التي تضخ المياه في القطاع بسبب فقدان الوقود.
وحتى العائلات التي تفر من جحيم الغارات من شمال القطاع إلى جنوبه، ليس لديها سوى العربات التي تجرها الحمير للنجاة بحياتها.
منعت سلطات الاحتلال توريد الحمير إلى محافظات غزة بعد تحريض مارسته منظمة إسرائيلية تعنى بحماية الحيوانات.
عذرا بأن أكتب بهذه اللغة، ولكن ألمي كما أشاهده من معاناة لأهل غزة جعلني أمدح البطل الصامت لإعطاء كل ذي حق حقه في وقت يسألني اكثركم من تقصد بالبطل الصامت، وهو ليس ذلك الحمار الذي يمثل أحد أكبر الأحزاب السياسية الامريكية الذي يصوت بالفيتو ضد قتل الأبرياء ويزود إسرائيل بأطنان الصواريخ والمسيرات والقنابل الموجهة والمدفعية والفسفورية ؟.
وأقول: إنه من خدم أهل غزة في ظل الحصار والتضييق، وهو الذي اخترق الركام والدمار في أحياء غزة لينقل الجرحى والشهداء بعد اختفاء الأبطال إلا من المقاومين والصامدين الصابرين.
والله من وراء القصد...
* غازي عليان/ امين عام حزب العدالة والإصلاح.