مقام الدّم في مديح الرّجولة
الشاعر علي الفاعوري
18-12-2023 02:12 PM
بعيدًا عن الشِّعر .. قريبًا مِن وائل الدّحدوح:
يبتدأُ الكلامُ والزّمانُ غيرُ بعيدٍ عن صورٍ لخيباتٍ كثيرات .. والتّتار الجُدُدُ يغوصونَ في دمِ الطّفولةِ .. خطواتُهم حائرةٌ أمام سطوةِ الشّمسِ .. لا يملكون هنا سماءً .. ولا أرضا تقيهم منفى التيه .. هم الغرباءُ سيخرجونَ من أحجارِنا / من أشجارِنا/ من هوائِنا / من ماءِنا الذي يعرف عطشَنا/ من شوارعنا العتيقة التي تكتب ظلالَنا بساطًا للنسّاك… واللعنة تطوقهم بوابلٍ من هزيمةٍ ودحر ..
يبتدأُ الكلامُ حين انفجرَ الدّمُ الغَزّيُّ ينابيعَ من زُمُرّدٍ وياقوت وبارودٍ فلسطينيّ .. قيلَ فيما قيلَ إنهُ صوتُ مؤذّنٍ بِلاليٍّ نادى في السّماءِ أن حيَّ على الغضب..
يبتدأ الكلامُ وكثيرٌ من الأرضِ عمياء .. وكثيرٌ من الأنهارِ جلست على حافّةِ القهرِ تلعنُ ماءَها .. وتنفُثُ في وجهِ الوقتِ الوقحِ دخانَها الغربيّ
ثمّ .. وعلى حينِ شرفٍ وبطولةٍ وكبرياء .. يخرجُ من رحِمِ امرأةٍ لا تُشبهُ النساء .. تشبهُ نفسها فقط .. تُسمّى غزة .. يخرجُ من رحمِها من يُعيدُ لسمائنا زُرقَتَها .. ولمائِنا طعمَهُ العربيّ الذي أُريقَ أو كاد ..
يا وائل
أعرفُ أنه كان مساءً غاضبًا .. وقلبُكَ يندفِعُ بكلِّ ذلك العِناد .. قامَتُكَ تواجِهُ الموت .. وشيبُكَ المبلّلُ بدمعةِ الأب الحارقة .. وشهقةِ الزّوجِ المُفارق .. ووقارِ شيخٍ تلبَّدَ العُمرُ فوقَ جبينِهِ سحاباتِ صبر وقوة .. فلَم يعُد يلتفتُ إلى هذه الدّنيا سوى بنظرةِ العارِفِ بصروفِها .. المُعتادِ طعناتِها .. والمارّ منها مرور العابرينِ إلى الخلود..
أيةُ روحٍ جذلى تلك التي سكنتكَ في ذلك المساءِ المُعنونِ بالدّمِ والفقدِ والدّمعِ والّلوعة ؟
أيّةُ رجولةٍ تلك التي مَسمَرتكَ أمامَ وجهِ حبيبكَ محمود ووردَتكَ شام كأنّكَ جبلُ أُحد؟
وقفتَ طودًا تُحدّثُهُما وكأنهُما يسمعانك .. وأظنّهُما كذلك .. كانا يَقرآنِكَ وأنت تستنشقُ دمَهُما الملائكي .. وتتلمسُ الجراحَ العابقةَ بترابِ غزّة .. وكرامةِ الأبطال .. يسمعانك بوضوح وأنت تشهقُ بكل ما في الرّاسياتِ الشُّم من ثبات: معل شيابا ..
يا رجُل:
كيف ذاك؟ ومِن أيّ جلمودٍ خرجت؟ كيف استطعت أن تقبضَ على قلبكَ الأبوي وتُطلِق العنانَ لقلبكِ الفلسطيني؟
أقسمتُ عليكَ بربِّ الأنبياء والشّهداء والصّديقين والصّابرين .. أن تُعلّمَني ممّا عُلّمتَ من رباطةِ الجأشِ .. وبأسِ المُرابطين
أقسمتُ عليك بالذي ألاكَ هذا اليقين .. أن تأخذني لدَرسٍ واحدٍ من دروسِ الجبروتِ التي نهلتَ منها .. أن تدلّني على شيخِ حضرتكَ الذي شربتَ من كؤوسِهِ كلّ هذا الجَلَدِ الأيّوبي .. لعلّني أدركُ كيف يتفّوقُ عنادُ الرّجالِ الرّجال .. على عتادِ الأخسّةِ الأنذال!
هو سؤالٌ يا وائل يسألُهُ أمثالُنا .. وفقط أنتَ ومن يشبهُك من يستطيعون الإجابة .. ويقدّمونها لنا على طبقٍ من وجع .. لعلَّ فينا رجُلٌ رشيد..
يا لكَ مِن صاحبِ خُلُقٍ وعِرٍ يا وائل .. ثمّةَ من لا يعرفون الخُلُقَ الوعر ..
ولم يقرأوهُ وأنت تحملُ بين يديكَ الفَلَذةَ شام التي غادرتكَ عصفورةَ دوريٍّ تغنّي لكَ وعنكَ كلَّ صباحٍ نشيدَ الرّجولة .. وأنتَ تنظرُ لجسدِ محمود الشّهيد المُسجى قمرًا فلسطينيًا لا يخبو ضياءَهُ .. وفانوسًا غزّيًا سيظلُّ على كل أبوابها منيرًا بليلِ النّصر ..
ثمّةَ من لم يسمعكَ وأنتَ تفسّرُ الدّموعَ حين فرّتْ لحظة الحُزن .. تفسّرُها خشيةَ أن يُفسّرَها المارقون على غيرِ ما تشتهي .. حينها .. قلتَ ببأسِ الفارسِ الذي لم ولن يترجل: هذه ليست دموع الانهيار ولا الخوف .. هذه دموع الانسانية ..
ياااا الله .. عن أي انهيار قد يتحدثون؟ وعن أي خوفٍ وجُبن ؟
كيف ينهارُ جبلٌ من العنفوان؟ كيف تسقطُ سماءٌ من عليائها؟ كيف يخشى البحرُ هديرَهُ؟ وكيف تجبُنُ روحٌ تمشي على قدمينِ من يقينٍ نحو سِدرةِ المنتهى..
قلتُ أنّكَ صاحبُ الخُلُقِ الوعر .. وهذا يا وائل وصفٌ أطلقَهُ شيخُنا أبو تمّام
ذات مديحٍ سأستعيرُ بعضَهُ لأني والله رأيتُك كأنّكَ تتلوها والشّهيدُ الحبيب مسجىً على أريكة من سُندسٍ خضر:
فتىً ماتَ بين الطعنِ والضّربِ ميتةً تقومُ مقامَ النّصرِ إن فاتَهُ النّصرُ
وقد كانَ فوتُ الموتِ سهلاً فرَدَّهُ إليهِ الحِفاظُ المُرُّ والخُلُقُ الوَعرُ
ونَفسٌ تعافُ العارَ حتى كأنَهُ هو الكُفرُ يومَ الرّوعِ أو دونَهُ الكُفرُ
فأثبَتَ في مُستَنقَعِ المَوتِ رجلَهُ وقالَ لها: من تحتِ أخمُصِكِ الحَشرُ
تردّى ثيابَ الموتِ حُمرًا فما دَجى لها الليلُ إلا وهيَ من سُندُسٍ خُضرُ
مضى طاهِرَ الأثوابِ لم تَبقَ روضةٌ غَداةَ ثوى إلا اشتَهَتْ أنّها قَبرُ
وائل ..
هو دَمٌ ودمعٌ حارقٌ في شتاءٍ يتيم .. يقاومُ ريحًا هو هازِمُها لا محالة .. وسوفَ يترُكها حكايةَ نصرٍ ككل الحكايا التي سبقت .. بينما الصوتُ .. ذاتُ الصّوتِ السّماوي .. يتلو أسماء الشّهداءِ .. والشّهداءُ يزيّنونَ السّماءَ بالزّهو ويبتسمون .. ويزرعونَ الأرضَ بالنّارِ ويبتسمون .. يلعنون الطّاعنينَ في النّعاس .. ويتركون المدى مسيّجًا بحنّائهم .. مُكلّلاً بنخوة الزّيتون .. ويبتسمون ..
فسلامٌ على عيون غزّة الدّامعة .. على الطُّرقاتِ التي تعرفُ إلى أين تمضي
على المفاتيحِ المُخزّنةِ في صدور وصناديقِ جدّاتِنا .. على التّرابِ الأبديّ لبلادٍ تُسمّى فلسطين .. وسوف تظلُّ تُسمّى فلسطين!
سلامٌ على بارودةٍ تُخبّئُ في رصاصةِ المُقبِلِ صرخةَ الوليد .. سلامٌ على حيرةِ الأطفالِ ويقينِهِم بأن الشّمسَ ستشرِقُ من جديد .. سلامٌ على حمامِ القدسِ والخليل .. سلامٌ على أرضٍ تلِدُ النّصرَ والرّجال ..
سلامٌ عليكَ يا وائل..