تقول الخرافة المنشورة على موقع الأمم المتحدة: "لكل طفل الحق في الحياة. على الحكومات أن تتأكد من بقاء الطفل على قيد الحياة كي يكبر بأفضل طريقة ممكنة" . وفي مكان آخر خرافة ثانية تقول: "جميع البشر يولدون أحرارًا متساوون في الكرامة والحقوق ". وثالثة تقول: "لا يجوز إخضاعُ أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة". هذه وغيرها من الخرافات المنصوص عليها في مواثيق الأمم المتحدة؛ عاشت لعقود في خيال من استرسلوا في قراءة الخطابات على أطلال أمل كاذب اصطُلح على تسميته (حقوق الإنسان)! وتبجحوا ببطولات موهومة، وانسكبت ألوان أقلامهم على أكفّ الحرائر، ولمعت أسماؤهم في حضرة الموت الشاخص في أجساد الأسرى، وغاصت أصواتهم في جماجم الأطفال، وتدلت ألقابهم من خيوط الأكفان المنشورة في المقابر الجماعية!
المشهد الحالي يستحث كل مفارقة وأسى عزيزي الناشط والحقوقي. وإذا شئت أم لم تشأ فإن ما يفصل بينك وبين المنظمات التي تنتمي لها أكثر مما يجمع، وكلما ازداد الصمت قد تكتشف عمق الهوة وحجم السادية!
"بينتقموا منا في الولاد! معلش!"؛ قالها المراسل التلفزيوني -بصوت لم يتجاوز حنجرته- وهو يحتضن جثثا لأفراد من عائلته في غزة.. "معلش"، قالها من جديد وهو يبحث عن ذراعه في ذراعه ولم يشعر بشيء قط، غير أنه لا يزال حيا، ولكن زميله لم يصل!
معلش، كن حقيقيا واعترف أن كل الخرافات التي بايعتها مثلها كمثل (من ينفخ في قربة مقطوعة) ما دامت تلك المنظمات منقادة لمشيئة الشيطان، وأن ثمة تضليل يتمدد مع عناوينك الحارقة ما دامت الجرافات تغوص في كرامة الرجال !
معلش؛ كن حقيقيا واعترف أن كل نواحاتك -ما دام ابن آوى منفلتا من عقاله- لن تروي غليل رؤوس الأحرار ولن تطفئ أوار ما اشتعل في صدور الأمهات ولن ترمم وجع جد ودع روح روحه بقبلة في العين، ولن يخدّر حزن مُسِن حاول عبثا خنق عبراته "أنا أربعين سنة بشتغل عشان أبني الدار هاي.. فداها.. فدا فلسطين"، ولن تزيد مثقال ذرة على إيمان جبل شامخ وقف في بقعة منسية يعج كل ما فيها بالغضب وصاح بكل ما أوتي من يقين "ما تعيطش يا زلمة"، ولن تبعد ضجيج الأشباح من رأس طفلة فتحت عينا وأغمضت الثانية لتتأكد من صراحة الوحشية: "أأنا في حلم أم في علم"؟
معلش؛ كن حقيقيا واعترف أن لا غاية من لعبة الشعارات سوى تحقيق الحضور! وما دمت في خلفية الصورة فكل الكلام لم ولن يلملم ما تبعثر من دمى الصغار الصاعدين إلى السماء ولن يتسع لزفرة طفل (أبيضاني وشعره كيرلي وحلو)، ولن يعيد الهدوء إلى مدرسة اكتظت بصراخ النازحين ولن يمسح على قلب عريس يتلوى من فرط قهره وعروس تبكي تفاصيل عمر لم يبدأ، ولن ينتشل جسد صبية شمت وشاح أمها بين الركام وماتت، ولن يُربت على حيوان أليف خلع لونه وارمدّ حتى أضاع ظله في الشوارع المزدحمة بالخيام وأكوام القمامة، ولن يرتب فوضى الحواس المرتجفة من أثر الجوع والجزع، ولن يرد قلب صحفي -جرب فيه الطاغية كل أنواع القتل- إلى صوابه!
معلش؛ كن حقيقيا واعترف أن أخبار الموت في فلسطين قد تمر مع الكثير من فناجين القهوة والسجائر وربما مع حبات مهدئة أيضا، لكنها لا تصرفك عن شؤونك الخاصة!
معلش؛ كن حقيقيا واعترف أن لكل طفل حق أصيل في الحياة، شريطة أن لا يكون فلسطينيا. وأن كل جريمة تمحو ما قبلها، وأن كل الكلام طارئ، لأنه شديد الشبه بزوابع نثر تنهار خصوصيته بفعل تكرار الكلمات. والصور كذلك طارئة، لأن صورة لمناسبة خاصة بك كفيلة بأن تخفيها كلها. مشاعرك هي أيضا طارئة، حتى وإن عبرت عنها بلمحات باهرة من العاطفة الممتزجة بالصراع والغضب، فتلك لمحات اعتيادية، قد تنجم بكل بساطة عند سماعك أغنية لفرقة أغاني العاشقين ثم تمحو ذلك كله أغنية غيرها.
وأنت عزيزي الواقعي معلش؛ كن حقيقيا ولا تبالغ في التنديد والاستنكار، فالفجوة -بين القول والفعل- جارحة أكثر مما ينبغي. ولا تُنظّر فتكون صلفا مثل عدوك، ولا تنحرف بالكلام إلى التخوين ولا تذهب في تأويلات تغري بالسباب البذيء، ولا تخض في الممنوع ولا تقل غزة والضفة والقدس كي لا تقع أنت نفسك في فخ الفصل العنصري .. (اللي إيده بالمي مش زي اللي إيده بالنار) !!
وأنت عزيزي المندفع.. معلش؛ كن حقيقيا واعترف أن الخوف يعيش في حياتنا، يصوغ أساطيره ويتسربل في أرواحنا، وسؤالي لك: هل سينجو منه أبناؤنا؟ لا تقترح أي إجابة، بل انظر حولك، إن كان في وسعك بعد أن تنظر! وكمان معلش؛ كن حقيقيا واعترف أن الحرية حظ لا أملكه أنا ولا حتى أنت، إنما يملكه الأنبياء والجنرالات وربما الأثرياء. وهنا أصل الحكاية!
"انتهت مرحلة المخاطرة لنقل الصورة وبدأت مرحلة المحاولة للنجاة". الكلام لمصور صحفي أقمر ليلُه على باب قيامة غابت فيها الأسماء المكتوبة على أجساد- لم تنتبه الحياة إلى ما بُتر منها- عن الآخرين وحضرت فيه وحده ملء العين والأذن! معلش يا عزيزي؛ هذي أيام بلا رحمة، وما بين جحيم السماء ومقبرة الأرض ليل ثقيل ونهار على بُعد قنبلة، ولا حياة لمن تنادي!
معلش؛ عزيزي الإنسان لم يعد هناك ما يكفي من الوهم. فلماذا لا تكون حقيقيا وتعترف أخيرا أن أهل غزة هم وحدهم أسياد التاريخ، يجترحون من كل ذرة رمل فيها معجزة البقاء، ويحملون ما فاض عنهم من خيبات، وينتفضون بكبرياء العالَمين-نارا وهواء وأقصى- على امتداد الزمن ومساحة الأرض، يروون أحلامنا نيابة عنا، وما نحن إلا عبيد الخوف!