اختارت إسرائيل لنفسها الهزيمة
د. محمد خالد العزام
15-12-2023 03:08 PM
حربُ «إسرائيل» على الفلسطينيين مستمرة، طالما هؤلاء جميعاً لا يعترفون بها ولا يخضعون لإرادتها. ولأنهم لا يعترفون بها بل يقاتلونها، فلا سلام في المشرق العربي إلاّ بعد أن يهزم الفلسطينيون كيان الاحتلال هزيمةً ساحقة يُضطر معها الصهاينة إلى الخضوع وبالتالي انهيار كيانهم الهجين، إذ قامت اسرائيل بالحرب، ونشأت على أساس أنه جيش لا يقهر و أنها قلعة مسلحة، وبالحرب استمرت وتوسعت وازدادت قوتها، لولا الحرب لم تكن إسرائيل، لكن الحرب كما كانت أساس وجودها فإنها يمكن أن تكون سبب انهيارها.
وبعد أن دخلت الحرب شهرها الثالث، أصبح من الضروري إعادة النظر إلى الحقائق وتقييمها مقارنة بالأهداف الرسمية المعلنة للحرب منذ يومها الأول.
هذه المرة تلعب الحرب دورا مختلفا عما لعبته في المرات السابقة، ومما لا شك فيه أن الحرب هذه المرة قد تكون بداية انهيار إسرائيل، كما عرفناها منذ نشأت.
الحرب هذه المرة ترسم بداية النهاية لدولة الاحتلال ، فالحرب على غزة قد أسقطت استراتيجية الردع الإسرائيلية، كما أسقطت أيضا «شرعية القوة»، وهذا ما يسبب جنونا وحشيا بين قيادات الحرب الإسرائيلية في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين؛ فطالما بقي الفلسطيني مقاوما صامدا، فإنه يعرّي عورة «شرعية القوة»، ويضرب في الصميم أسطورة «الاستثناء الإسرائيلي»، التي تحاول الصهيونية الدينية المتطرفة ترويجها. وطالما بقي الفلسطيني مقاوما صامدا مدافعا عن حقه في أن يكون له وطن آمن ودولة مستقلة، فإنه يقيم الدليل على جريمة العدوان والاستيطان والسرقة التي لم تتوقف في فلسطين منذ أكثر من قرن من الزمان. ولهذا فإن جنون الوحشية الإسرائيلية لا يتوقف. الجديد الآن إزاء عجزها عن تحقيق أي مكسب حقيقي في الحرب، وارتفاع أعداد قتلاها وخسائرها، أنها تحاول إخفاء خسائرها بالتضليل وشن حرب نفسية على الشعب الفلسطيني، وصل إلى حد مطالبة المقاومة بالاستسلام وتسليم السلاح وما هو إلا أضغاث أحلام!
يحدث ذلك وهي تناقش في السر كيفية تجاوز عجزها عن تحقيق أهداف الحرب، إلى حد دراسة إعلان نهايتها دون تحقيق أي من تلك الأهداف تحت «ضغوط الوقت». وتكشف اعترافات قيادات الجيش وحكومة الحرب الإسرائيلية حالة عميقة من الارتباك بشأن المدى الزمني للحرب، حيث تتراوح التقديرات من مجرد عدة أسابيع، إلى عدة أشهر، إلى عدة سنوات، إلى أجل غير محدود. ونقول في جملة قصيرة قاطعة إن «إسرائيل غير مؤهلة لحرب طويلة المدى». ليس ذلك فقط، بل إن إدارة إسرائيل لحرب غزة منذ بدايتها حتى الآن جعلت ما تعتبره مكاسب حققتها مثل إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم وتخريب ممتلكاتهم المادية، في أعين العالم كله جرائم ترتكبها إسرائيل في حق الإنسانية.
في اليوم التالي لانهيار مفاوضات تجديد الهدنة الإنسانية في غزة، وجه وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، تحذيرا قويا لإسرائيل من أنها تتسبب في تعريض نفسها لما سماه «هزيمة استراتيجية مقابل مكسب تكتيكي». واعترف أوستن في «منتدى ريغان للدفاع القومي» في الثاني من الشهر الحالي، بأن الولايات المتحدة تعلمت درسا صعبا من حروبها في أفغانستان والعراق، يتمثل في أن مفتاح الانتصار في حروب المدن هو حماية أرواح المدنيين، وعدم تعريضهم للنزوح عن أرضهم وممتلكاتهم.
ومع أن أوستن لم يخض في تفاصيل السياسة العسكرية في حرب غزة، فإن الثابت هو أن هذه السياسة تنطلق من مبدأ «القتال في الأرض المحروقة». وعلى أساس ذلك أمرت المدنيين الفلسطينيين أولا بالفرار من شمال غزة إلى جنوبها، ثم قتلت الآلاف منهم وهم يفرون إلى الجنوب، وعادت لتقتل من تبقوا وجعلت الأحياء السكنية أماكن غير قابلة للسكن.
وهي الآن تكرر في خان يونس ما فعلته في غزة بأساليب أكثر وحشية. بهذه السياسة العسكرية فإن إسرائيل تخالف أبسط قواعد حروب المدن، وتعرض نفسها كما قال أوستن لهزيمة استراتيجية في فلسطين، ومعنوية في العالم أجمع. وتحاول إسرائيل الإفلات من تأثير هذه الهزيمة باللجوء إلى بكائية «العداء للسامية» ومحاولة تصوير نفسها على أنها «الضحية»، لغرض استدرار عطف العالم. الافتراض الشائع بين خبراء الشرق الأوسط والشؤون الاستراتيجية في الغرب بشأن حرب غزة، هو أن إسرائيل سوف تنتصر في النهاية، لأن جيشها هو أقوى قوة ردع عسكرية في المنطقة. ومع ذلك فإن واحدا من هؤلاء الخبراء هو جون أُلترمان مدير برنامج الشرق الأوسط لدى المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية في واشنطن، يطرح ضرورة دراسة فرضية مخالفة تقول، بأن حرب غزة التي بدأت في 7 أكتوبر قد تكون الحرب الأولى التي يخوضها ويخسرها الجيش الإسرائيلي. وفي سياق التحليل الذي قدمه ألترمان تحت عنوان «إسرائيل يمكن أن تخسر» (موقع مركز CSIS في 7 من الشهر الماضي) فإنه ربط بين التداعيات الكارثية للهزيمة الإسرائيلية في غزة على كل من إسرائيل والولايات المتحدة في آن واحد. وقال إنه من الضروري دراسة هذا الاحتمال وعدم تجاهله أو استبعاده، منبها إلى أهمية التعلم من الدروس التي رافقت الهزيمة الأمريكية في فيتنام، والإخفاقات العسكرية المتواصلة التي أدت إلى خروج الولايات المتحدة بعد ذلك من مواجهات عسكرية، أو حروب دون تحقيق أي انتصار، مثلما حدث في لبنان والصومال وهايتي، ثم بعد ضربات 11 سبتمبر في أفغانستان والعراق والحدود السورية العراقية. ما يجعل التحليل الذي قدمه جون أُلترمان جدير بالدراسة لا يتعلق فقط بنظرته إلى الماضي، والدروس التي يشير إليها، ولكن يتعلق أيضا بما يرتبط به من تطورات سياسية حالية، تجعل للحرب تأثيرا مباشرا على المستقبل السياسي للإدارة الحالية في واشنطن بقيادة بايدن، والحكومة في تل أبيب بقيادة نتنياهو.
ويبدو لنا أن نتائج حرب غزة إذا اتخذت مسارا خارج سياق ما تتوقعه وتعمل من أجله كل من القيادتين، فإن كلا منهما سيخسر مكانه، ليفسح المجال لقيادة سياسية جديدة في واشنطن وتل أبيب. في هذا الحال فإننا نستطيع القول بأن نتائج حرب غزة ستضع العالم كله أمام حقائق جديدة، وهنا فإننا نتفق مع مقولة نتنياهو أن الشرق الأوسط بعد حرب غزة لن يكون كما كان عليه قبلها. وعلى عكس ما يعتقد نتنياهو، فإن الشرق الأوسط الجديد بعد حرب غزة سيكون أقل ترحيبا بالولايات المتحدة، وأقل تسامحا مع ممارسات إسرائيل العدوانية.