يبدو أنّ الترحيب الرسمي العربي المعلن، وغير المعلن، بالاستراتيجية الأميركية الجديدة في العراق مبني على مؤشرات ورسائل متعددة بأنّ هنالك تحولا أميركيا كبيرا في إدارة الصراع الداخلي في العراق بين السنة والشيعة، باتجاه إضعاف إيران والقوى الموالية لها، حتى لو تطلب الأمر إعادة بناء التحالفات السياسية الداخلية من جديد.
الرسائل الأميركية الأولى تمثلت باعتقال الإيرانيين الأربعة، وإعلان صحيفة نيويورك تايمز أنّ القوات الأميركية عثرت أثناء الهجوم على مقر مسؤول إيراني في بغداد على خرائط الأحياء في العاصمة في خطة تستهدف تهجير السنة من بغداد، وترافق ذلك مع الضغط الأميركي على رئيس الوزراء المالكي للوقوف في وجه ميليشيات جيش المهدي والتيار الصدري.
السؤال هو إلى أي مدى يمكن للإدارة الأميركية الحد من النفوذ الإيراني وقلب الطاولة عليه في العراق؟ وهل هنالك مخطط أميركي مع استعداد سُنّي للقيام بالدور الذي قامت به القوى السياسية الشيعية في البداية، أي التحالف أو التنسيق مع الاحتلال الأميركي؟ وإذا كان السنة غير مهيأين أو مستعدين لمثل هذا الدور مباشرة، فهل يمكن أن يتم ذلك من خلال "دور عربي وسيط" يدعم السنة مالياً وسياسياً وإعلامياً في صراعهم مع القوى الشيعية الموالية أو المحسوبة على إيران؟
تبقى احتمالات الإجابة على التساؤلات السابقة مفتوحة ومتعددة. لكن الخبرة التاريخية وبعض المؤشرات الواقعية لا تمنع من عملية تحول كاملة في مواقف كل من الأميركيين والشيعة والسنة. حتى المقاومة السنية المسلحة، ذات الطابع السلفي، فإنّ تجربة الجهاد الأفغاني، والدور العربي فيه، تمثل معياراً لإمكانية تكرار التوظيف المتبادل بين الجهاديين والأميركيين، بخاصة أن هنالك خطاباً سياسياً لدى أطراف رئيسة في المقاومة يعتبر ما يسمى بـ" الاحتلال الصفوي" (على حد وصف الجيش الإسلامي) أخطر من "الاحتلال الأميركي"، وهو خطاب معزّز بأيديولوجيا مذهبية ذات موقف سلبي صارم من الشيعة.
من جهته؛ فإنّ تنظيم القاعدة في العراق يحمل مشروعاً معادياً للقوى الشيعية، في الأصل، وليس بحاجة إلى محفز أو شروط إضافية لتعزيز خطابه السياسي والفكري أو حتى عملياته العسكرية ضد الشيعة.
الاحتمال الأكبر - في صراع داخلي كهذا- ألاّ يكون هنالك رابحون وخاسرون، فهو صراع ديني- اجتماعي، بمحركات سياسية داخلية وخارجية، ولن ينتهي بانتصار أي طرف على آخر، مهما كانت قوة أحد الطرفين. لكن بلا شك فإنّ تحوّل الصراع إلى داخلي، وخروج القوات الأميركية من العبء الأكبر، أمنياً وعسكرياً، سوف يشغل حلفاء وأصدقاء إيران بمشاكلهم الداخلية وصراعاتهم المريرة، ولن يشكلوا أداة من أدوات القوة الإيرانية في حالة الإحماء والتصعيد الجاري مع الإدارة الأميركية.
احتمال آخر، في سياق الانقلاب الأميركي على إيران، يرتبط بزيادة عدد القوات الأميركية في العراق، وقد يتقاطع ذلك مع الاحتمال الأول، وهو أن يقوم الأميركيون بالإطاحة بحكومة المالكي، على خلفية اتهامها بالطائفية والفشل في مواجهة العصابات المسلحة..الخ. ويأتي الأميركيون برجل قوي يحظى بدعم عربي، وبتأييد قوى سنية، ويتم دعمه عسكرياً وأمنياً وسياسياً، لمواجهة الفوضى المسلحة.
في المحصلة؛ ستخسر إيران دورها ونفوذها الواسع في العراق، وسيضعف موقفها هناك. ما يطرح سؤالاً رئيساً حول السياسة الإيرانية والأخطاء الفادحة التي ارتكبها، ويرتكبها، حكام طهران. فبالعودة إلى السنين الأخيرة؛ ثمة اتفاق بين أكثر المحللين والسياسيين أنّ إيران هي المستفيد الأول من السياسة الأميركية، في عهد الرئيس دبليو بوش، إذ أدت حربا أفغانستان والعراق إلى تخلص الإيرانيين من خصمين شرسين معاديين (طالبان وصدام حسين)، وفُتحت أبواب العراق أمامهم على مصراعيها، وقدّم عدد من المنظرين والكتاب الأميركيين خطاباً جديداً يدفع باتجاه التحالف مع "الشيعة" في مواجهة السلفية التي قام أنصارها بضربة 11 سبتمبر 2001.
على الجهة المقابلة كان النظام الرسمي العربي، ولا يزال، يعيش أزمة كبيرة ناجمة عن عوامل داخلية وخارجية، أبرزها السياسة الخارجية الأميركية التي جاءت محصلتها، على المستويات المختلفة، لصالح سورية وإيران وضد حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة في المنطقة. ولم يتردد المحلل الاستراتيجي الإسرائيلي المعروف، باري روبن، باعتبار إيران قوة إقليمية في المنطقة.
لم تتوقف الفرص الذهبية والمجانية، التي قدمتها الظروف التاريخية والسياسية لإيران، إذ أدى صمود حزب الله في الحرب مع إسرائيل إلى إعادة إنتاج صورة إيران في المنطقة وتحول الثنائي نجاد وحسن نصرالله إلى بطلين شعبيين لدى شريحة واسعة من النخب والجماهير العربية على السواء، ولم تُخف كثير من الحكومات خشيتها من حالة "تشيع سياسي" واسعة النطاق في العالم العربي، ومن نجاح إيران، وللمرة الأولى، في كسر الجدار النفسي الطائفي والدخول إلى عقر المجتمعات العربية سياسياً وشعبياً.
كيف تعاملت إيران مع تلك المنح التاريخية السخية؟..
اعتقد نجاد، الذي جاء إلى السلطة يونيو 2005، أن بإمكانه استعادة الأمجاد القومية الفارسية من خلال سياسة براغماتية صارخة تلبي مصالح وأهداف إيران الإقليمية، مع دعاية سياسية متطرفة ضد الإدارة الأميركية وإسرائيل لتحقيق نفوذ شعبي وسياسي في العالم العربي. هذه السياسة "المزدوجة" كادت أن تنجح، بخاصة أنّ هنالك نخبة عربية واسعة وشريحة شعبية كبيرة تُعمى أبصارها وبصائرها بالشعارات الرنانة، وبالتعطش لأي ألحان خطابية تعزف على جرح الكرامة النازف.
لكن يبدو أنّ القشة الرقيقة التي كانت تغطي سياسة إيران الخارجية - ذات النزعة القومية والطائفية- طارت مع مشهد إعدام صدام، وكأنّ الجماهير والنخب العربية استيقظت فجأة لتكتشف مدى الخديعة والتضليل والتنويم المغناطيسي الذي كانت تحت تأثيره بفعل خطاب نجاد الناري وكاريزما حسن نصرالله!
بين ليلة وضحاها! تكشفت السياسة الإيرانية الحقيقية أمام الرأي العام العربي. وإذا كان الواقع ومتابعته يغنيان عن استقراء الدور الإيراني (التخريبي- الطائفي) في العراق، فإنّ إيران لم تُعط حزب الله فترة زمنية كافية للاحتفال والتمتع بصموده البطولي في وجه العدوان الإسرائيلي، فقلبت بوصلته ودوره إلى الساحة اللبنانية، وأظهرته بصورة طائفية فجّة، على حساب تلك الصورة السابقة التي استطاع أن يشكلها الحزب عن نفسه؛ بأنه حزب المقاومة النظيف، الذي يتقن الدفاع عن أرضه من جهة، ويمتلك مرونة وروحاً وطنية متسامحة من جهة أخرى.
الخطأ الأكبر لحكام طهران أنهم لم يريدوا العراق دولة قوية متماسكة، وجاراً مستقراً موحداً، بل أرادوا بسط نفوذهم فيه، وجعله "ساحة" للمصالح والأهداف الإيرانية واللعبة السياسية والأمنية مع الولايات المتحدة. بالتأكيد وراء هذه السياسة تكمن مصالح طهران، لكن هناك أيضاً تنافساً داخل الطائفة بين الإيرانيين والشيعة العراقيين، إذ تخشى طهران أن يعود النجف مركزاً للشيعة في العالم، فتفقد قم مكانتها الدينية والمذهبية، فعملت طهران على جعل العراق تابعاً وملحقاً بطهران، من خلال عمل أمني وسياسي مكثف، وبعملية شراء ذمم واسعة.
يتوازى مع الخطأ الأول أنّ طهران، رغم الشعارات الإسلامية الرنانة، تعتمد سياسة خارجية طائفية بامتياز؛ سياسياً تنحاز طهران للشيعة العرب، وتدعمهم بالمال والسلاح (في بعض الحالات)، وتجعل منهم أداة من أدواتها، وهي المركز العالمي لحماية الشيعة، في مختلف الدول، ودينياً تقوم طهران بتشجيع نشر التشيع في المجتمعات والدول السنية، وهنالك تقارير هائلة حول هذه السياسة سواء في سورية وفلسطين ومصر والسودان والمغرب العربي، ودول الخليج، وحتى الأردن.
السياسة "الطائفية" الإيرانية تخلق حوافز موضوعية ومحركات لصراع داخلي وحرب أهلية في العالم العربي والإسلامي. والمفارقة أن هذا الصراع الذي تتشكل ملامحه في العراق ولبنان، على المستوى الجزئي، سيورط إيران والدول العربية الأخرى في حالة مرعبة من الانقسام والاقتتال، ما سيشكل بحد ذاته عامل احتواء وسدا منيعا في وجه النفوذ والتمدد الإيراني، وسيحول إيران من قوة إقليمية صاعدة إلى دولة مستنزفة في صراعات وأزمات إقليمية مركّبة، مع جوار عربي لا يشعر باستقرار وأمن في سياق الطموح الإيراني، وسيشغل أدوات إيران الإقليمية في أزمات محلية في مختلف الدول، كما أنه سيشكل نزيفا إضافيا للاقتصاد الإيراني المتدهور، الذي يعتمد بدرجة رئيسة على عائدات النفط، في حين ترتفع نسب الفقر والبطالة والحرمان الاجتماعي بدرجة كبيرة.
باختصار؛ يبدو جلياً أن ما منحته التطورات الإقليمية والظروف التاريخية لطهران يضيعه نجاد ومجموعته، الذين لا يعتبرون بتجربة الاتحاد السوفيتي وأخطائه الاستراتيجية الكبرى، فيكررونها لكل بلون آخر ونكهة جديدة مختلفة!
m.aburumman@alghad.jo