أخطر ما يواجهنا في كل ما يحدث هو خطاب التخوين، والإقصائية.
وهو خطاب مليء بالتنمر والسباب والشتائم الذي يجعل أي صاحب موقف مغاير أو مختلف عن التيار الشعبوي السائد في دائرة الشبهات ومحكوما بالنبذ.
يوم الثلاثاء، استضافتني قناة "رؤيا" الموقرة على برنامج نبض البلد وكان الأساس هو الحديث عن التطورات السياسية في العدوان على غزة وكذلك الحديث عن المواقف الرسمية والشعبية في الأردن.
طبعا، كان لا بد من تناول موضوع "الإضراب" الذي حدث في الأردن، وعلى أساس أنه إضراب عالمي سيعصف بالعالم تضامنا مع غزة، وقد عشت ذلك اليوم متأملا تلك المحلات المغلقة والشوارع الخالية من الازدحام في العاصمة عمان.
في البرنامج وعلى الهواء مباشرة، تحدثت بما أفكر به من قناعات، ولم أفكر للحظة بتخوين المضربين والمتعاطفين مع الإضراب، لكنني انتقدت فكرة ممارسة الإضراب كعمل احتجاجي في الأردن من منطلقات طرحتها تتعلق بالمعنى الحقيقي لمفهوم الإضراب أساسا.
كل ما قلته أن الإضراب هو فعل سياسي قائم على الامتناع عن عمل كسياسة احتجاج على سياسة ما للدولة او الحكومة او صاحب العمل، بهدف تحقيق مطالب يراها المضربون عادلة ويسعون لتحقيقها. هذا هو الإضراب ببساطة!
وحين جادلني السيد مقدم الحلقة قمت بعكس الأدوار بيني وبينه وطلبت منه هو ان يجيبني عن سؤال واحد: ما هو تعريفه للإضراب؟ وبعد إلحاح أجاب بنفس الإجابة التي قدمتها.
وأضفت بما أن موقف الدولة والسلطات متماهٍ مع موقف الشارع إلى حد كبير في رفض العدوان على غزة بل وتجريم إسرائيل بحربها الهمجية على الأبرياء، فلماذا الإضراب؟ على أي حزمة مطالب بالضبط يقرر كل هؤلاء إغلاق محلاتهم ومؤسساتهم؟ وأي فائدة يمكن جنيها من تعطيل الحياة في عمان وقد خسر الاقتصاد المحلي – كما تردد- ما قيمته خمسين مليون دينار تقريبا في ذلك اليوم؟ لمصلحة من "ماراثون المزاودات" هذا بين الموقفين الرسمي والشعبي؟
واستطردت موضحا موقفي أن الأجدى لو كان هناك مسيرة تضامن مع العالم الذي يمارس الإضراب ضد حكوماته التي تقف مع العدوان على غزة، تلك رسالة واضحة ووسائل التواصل الرقمي كفيلة بإيصالها إلى العالم.
كل ما فعلناه – كما قلت- أننا نطلق النار على أقدامنا فقط.
وأوضحت أن الإضراب فعل محمود في دول مكتملة المؤسسات الرسمية والأهلية، وفي تلك الدول – حيث أعيش في بلجيكا مثلا- هنالك إضرابات دوما، وتحقق أهدافها لكنها منظمة وتقف خلفها نقابات وهيئات منظمة تحدد أهداف الإضراب وتوقيت بداياته ونهاياته مع الأخذ بعين الاعتبار مصالح المجتمع نفسه. قرار سياسي محدد وواضح بلا التباسات.
وهذا دفعني لسؤال العزيز مقدم الحلقة عن هندسة الإضراب الأخير في عمان: من أين أتت الدعوة؟ ومن نظمها وما هي المطالب؟ حتى يتم تعطيل أرزاق كل هؤلاء وهم الخاسرون الوحيدون. وبإمكان أي شخص ان يسأل كثيرا من المحلات المغلقة عن إرهاب التخوين والمضايقات التي كانوا سيتعرضون لها لو لم يغلقوا، لأن قلة المحلات التي مارست حقها بالفتح تعرضت لمضايقات لفظية وتنمر يشبه محاكم التفتيش.
أصحو صباح الأربعاء، لأجد القناة وقد بثت تلك المقتطفات القصيرة، وهي التي تخضع لمزاج المونتاج في القص، والذي يبتر الجملة على قياس "لا تقربوا الصلاة"، وسيل من الشتائم والإرهاب اللفظي في التعليقات وخطاب التخوين.
بالنسبة لي، أتعرض لذلك منذ سنوات طويلة، والحل دوما عندي هو الإهمال المطلق.
وأعرف أن هناك أيضا من يتقاطع معي في الفكرة، ويتساءل عن جدوى ذلك كله، لكنه الحذر والتوجس من خطاب التخوين وهو إرهاب بحدوده الدنيا في المحصلة، وهو شر ينمو ويزدهر حين يصمت الجميع عن طرح الرأي المقابل.
وأخيرا..
صار الإصلاح ضروريا وملحا، بكل نواحي الدولة، حتى نصل إلى يوم نرى فيه دولة مؤسسات وقانون حين تحتاج أي فئة من مجتمعها إضرابا تجد من ينظمه برعاية القانون نفسه لا برعاية تغريدة تويتر "مريبة" عابرة للحدود.
الغد