المركز الوطني وتجاذبات رحلة تطوير المناهج
فيصل تايه
12-12-2023 12:36 PM
بالنظر إلى بعض الخطابات والتحليلات التي نسمعها ونقرأها بين الفينة والأخرى من قبل بعض ٍمن التربويين من قامات المرحلة السابقة، يبدو أنها تستهدف في مضامينها إصدارات المركز الوطني لتطوير المناهج من مناهجنا الدراسية الجديدة، ما قد يدعو إلى زعزعة الثقة بالمخرجات، ويلقى ما يلقاه من ردود أفعال وانتقادات بحق هذه المؤسسة الوطنية المستقلة التي جاءت بإرادة ملكية سامية، واستجابة لتوصيات الإستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية؛ بهدف الإصلاح التربوي وتطوير المناهج والكتب المدرسية، لمراحل الطفولة المبكرة والتعليم الأساسي والثانوي، بما ينسجم مع فلسفة التربية والتعليم الأردنية وأهدافها، والثوابت الدينية والوطنية؛ وفقاً لأحدث الأساليب التربوية، وبما يتماشى مع احتياجات المملكة ومسيرة التعليم المثلى، وينسجم مع أفضل الممارسات العالمية؛ من أجل التأسيس لشخصيات طلابية قيادية، متطلعة إلى مستقبل واعد في أردن قوي متطور.
نحن اليوم أمام بعض الآراء التي قد يُفهم أنها تحريضية؛ لما تتضمنه من تحليلات وتوصيات، وما تحمله من نقد -بقصد أو بغير قصد؛ وقد تفصح عن محاولات للتشكيك في مصداقية مناهجنا الوطنية الجديدة، ولناخذ ذلك بحسن النيّه على أنه "غير متعمد"؛ لكن ظاهرة الاستهداف المتكرر لإصدرات المركز الوطني لتطوير المناهج "بحد ذاتها" تعتبر تعدٍ على مسؤوليات مؤسسة وطنية، وعلى منهجيتها؛ فكل خطاب اتهامي يبثّ علانية ضد أي مؤسسة وطنية مرفوض، ومنافٍ للحس بالواجب والالتزام به؛ فالمركز الوطني لتطوير المناهج يقوم بمهمته الوطنية بإشراف قامات علمية، هم أصحاب الفضل في نجاح هذه المهمة، فما يقومون به يتوقف عليه مستقبل جيل كامل في تحصيل المعرفة والبناء التعليمي، لكن يظهر أن التعامل مع مقاصده صار يصدر عن عقليات فذة، إلا أنها انحازت عن الوجهة حين اقتصرت على منهج النقد دون الاسهام في طرح ما يفيد في عملية التطور للتوجيه والإصلاح.
لذا، يجب أن نعي ومعنا كافة المعنيين من قاماتنا التربوية الوطنية العتيدة؛ ان حجم التحديات التي تواجه المركز الوطني لتطوير المناهج وهو ماض في عملية تطوير المناهج التعليمية في الوقت الحالي، ولعل من أهمها: الانفجار المعرفي الهائل في كافة المجالات، والثورة التكنولوجية التي تعتمد على المعرفة العلمية المتقدمة، والاستخدام الأمثل للمعلومات، والقضايا والمشكلات العالمية المعاصرة؛ كالمشكلات البيئية، والسكانية، والصحية، وقضايا التنمية. لذلك، تحتّم اختيار خبراء ومصممي مناهج على درجة عالية من الكفاءة؛ لمراعاة كل تلك التحديات والتصدي لها عند تطويرهم للمناهج التعليمية؛ بغية إعداد فرد قادر على مواكبة التطور المتسارع واستيعابه في مجال تخصصه، عبر تنمية قدراته ومهاراته في التفكير والتحليل المنطقي، وتوظيف مصادر المعرفة المتاحة في عمليتي التعليم والتعلم، بالإضافة إلى تربيته تربية تكنولوجية؛ تمده بالمعارف والمهارات وأساليب التفكير اللازمة للحياة في عصر سريع التغير.
كما ويجب أن ندرك أن هذا المركز وجد ليكون بيت خبرة متميز؛ فقد اختيرت قياداته من القامات الوطنية والتربوية، ذات الخبرات الواسعة من أبناء الوطن؛ لتوجيه العمل على إعداد مناهج وطنية أردنية نوعية، تستند إلى أعلى المعايير العالمية، والتجارب الدولية الناجحة، والقيم الوطنية التي ترسِّخ هويتنا، وصولا إلى الريادة التي اتسم بها الأردن في إقليمنا العربي؛ فنحن ندرك أن التطورات والتغييرات في المناهج الأردنية تُبنى وتتطور وتُعدل وفق معايير مستمدة من الدستور وقانون التربية والتعليم؛ فهي زاخرة بالمفاهيم التي تحث على التحلّي بالقيم الأخلاقية الفضلى، وتعزيز الانتماء الوطني، وتحصين أبنائنا ضد الغلو، وتعميق مبادئ التسامح والاعتدال واحترام الآخر وصون النفس البشرية .
إننا نعلم كتربويين أن تطوير المناهج وفق إستراتيجية عمل المركز، ليست قضية انفرادية، وإنما قضية وطنية تشاركية، تُثرى عبر مساهمات وآراء واضحة للخبراء والمختصين والتربويين، وكافة المتداخلين في العملية التعليمية؛ حيثُ تُعالج المفاهيم المختلفة بعمق على حساب الكم، باعتماد المنحى التكاملي في مجالات العلوم المختلفة، وذلك عن طريق النشاطات الموجهة للطلبة والقائمة على التعاون، وتعليم الأقران وفق إستراتيجيات التعلم الفعال، والصف النشط، وتوظيف التكنولوجيا والدراما، والموسيقى، واللعب في العملية التعليمية التعلمية؛ فيتحول دور المعلم من التعليم إلى التعلم، تاركاً الطرق النمطية في التعليم والتلقين إلى غير رجعة، ومتجهاً نحو التعلم العميق، إذ تعمل هذه المناهج على توفير فرص تعلم للطلبة بتشاركية خلال عملية اكتشاف المعرفة، وإنتاجها على المستوى الوطني والعالمي.
إن المناهج المطورة التي يقوم بانتاجها المركز الوطني لتطوير المناهج والإشراف عليها، قد عكست بشكلها العام -بمضامينها وبكل معانيها ومدلولاتها- الاعتزازَ بالعمق الوطني والقومي، والانفتاح الإيجابي البناء على العالمية؛ إذ نجد أن عملية تطوير المناهج جاءت كاستحقاق حقيقي، تحاكي فيه السياقات الحياتية للواقع، وطبيعة المرحلة، واستشراف المستقبل، والإرث الثقافي والوطني. أضف إلى ذلك أن المناهج الجديدة التي يتم إصدارها تباعاً، تعزز فضائل التفكير الناقد، والتواضع المعرفي، والشجاعة العقلية المعرفية، والتقمص العقلي، والتكامل والكمال، والمثابرة والإنصاف العقليين. وهذا يتطلب إدراك استحالة الفصل بين مداخل تخطيط المناهج التعليمية ومداخل تنفيذها؛ فبعض تلك المداخل يمكن استخدامها أثناء عملية تخطيط المنهج وأثناء تنفيذ أيضا.
والمركز الوطني لتطوير المناهج ليس جسماً منفصلا ًعن عقل وتفكير وزارة التربية والتعليم؛ فالعلاقة بينهما بُنيت في الأساس على التكاملية التقاربية المهنية، التي ترقى إلى النهوض بالمسؤولية المشتركة، إذ تقوم الوزارة باستمرار بدراسة مسحية للمناهج؛ بهدف الوقوف على أدق التفاصيل والملاحظات التي ترد من الميدان التربوي؛ ذلك أن الوزارة تعمل على تطوير إستراتيجياتها عبر استقبال الملاحظات الواردة، والتشارك مع المركز الوطني لتطوير المناهج؛ بهدف تجويدها بشكل يرقى إلى المستوى المطلوب. لذا، فإن المناهج الجديدة المعمول بها حاليا، تحتاج إلى الوقت الكافي لجني آثارها.
وأخيرا، فإن هذا المنجز الوطني الذي يتمثل في هذا المركز، يستحق منا تقديم كل الشكر والعرفان خاصة إلى رئيس وأعضاء المجلس الأعلى، ورئيس وأعضاء المجلس التنفيذي، وكل الذين واصلوا الليل بالنهار ليبشروا بهذا المنجز الوطني الكبير، وأخص بالذكر: فرق التأليف والمراجعة، والتدقيق، والإشراف، والتصميم، ولكل أبناء الأسرة التربوية الذين ساهموا في إعداد هذه المناهج النوعية بكل همة ومسؤولية.
والله ولي التوفيق