ككل عام ، مرت ذكرى وصفي التل ، هذا العام : خطابات التحسر ، نداءات له للخروج من القبر ، وقصص عنه تتكرر ، مع أنه ضد التكرار ، وبعد ذلك ، ينصرف الجمهور لاستئناف الروتين التذمري المعتاد ، حتى العام القادم ، فلا احد يريد ان يكون واحدا أو واحدة من اولئك الالف او المئة أو العشرة الذين قال وصفي انه واحد منهم ، بل يصل للقول كهوغو ، حتى لو كانوا واحدا مجرد واحد فقط ، لكنت انا هذا الواحد الذي يواجه الطغيان ، انه يعرف تماما ويعترف مسبقا ، انه يعمل ضد مصلحته الشخصية ، لكنه يفتخر انه يقدم المصالح العمومية على مصلحته وسلامته الشخصية.
وهو يكشف عن نفسه سلفا ، ويفرّق بين نفسه وبين سليمان النابلسي وشفيق ارشيدات ، ويكتب الى رفيقهم عبدالحليم النمر ، شارحا ( الفرق بيني وبين أشكال الزعيم مع حفظ المقام والمنصب أنهم يريدون نصرا على الورق وهزيمة للاعداء بالكلام ، وانا اريده نصرا حقيقيا بالفعل والواقع… سيهتف الزعيم ومعه شفيق تسقط المؤامرات ، اما انا فاعتقد ان الوضع من الخطورة والاهمية بحيث لا يعالج بكلام يسقط ويعيش ولا بتملق الشارع ومن ثم جره الى الكارثة ) وتبعا لهذا التقدير الاستباقي المختلف ، سنفهم لماذا عارض بكل شدته التورط في حرب حزيران ، وكيف ضحى بمنصبه في رئاسة الحكومة ، لتجنب الانزلاق انذاك.
اما في الاقتصاد ، فهو يعلن من اول ايامه في الحكم ، التزامه بالاقتصاد الحر ، لكنه لا يفرط أبدا بمركزية دور الدولة في التخطيط والتوجيه ، ويشرح ، بأن الحرص على اجتذاب رأس المال وتشجيع الاستثمار ، لا يعني أن يتصرف رأس المال على خاطره ، فمهمة الحكومة عنده ان تراقب الإنتاج وتنوعه وتتأكد من جودته واسعاره ، وتمنع الاحتكار والاستغلال والرداءة ، وتمتنع عن الترخيص للاستثمار المتشابه المتضارب مع بعضه بعضا ، ويقول انه كلما تبين ان هناك استغلال او احتكار ، على الحكومة ان تدخل السوق بنفسها ، وهو يعرف ايضا ان السوق يمكن أن تعاني من الازدواج الضريبي والضرائب المتشابهة ، فيلغي على وجه السرعة كل الضرائب الضارة والمتكررة ، ثم لا ينحاز لطرف في السوق ضد آخر ، فمن حق المستثمر ان يربح ومن حق الدولة ان تحصل على الضريبة ومن حق المستهلك ان يحصل على سلعة جيدة بسعر منطقي ، وينجح بالفعل في إفشال عمليات الاستغلال والاحتكار في السوق ، أنه يؤمن بوعي عميق جدا ، بما يسميه الاقتصاد الحر الموجه ، اوالطريق الثالث.
ويحاضر ، متمكنا ، حول الاشتراكية والرأسمالية ، ويكشف عن التطبيقات غير الحقيقية لكلا النظريتين في العالم ، فهو يعرف أن ليس كل من ادعى الاشتراكية اشتراكيا ولا كل من ادعى تحرير السوق حرا اقتصاديا ، أنه معني بالواقع الفعلي لا بالمعلنات الخادعة ، ويستطرد في الشرح احيانا ، مشبها نهج الأردن الاقتصادي في عهده بالنهج الاقتصادي في الدول الاسكندنافية ، فلا هو اشتراكي متطرف ولا ليبرالي متطرف ، انه الاقتصاد الحر الموجه ، ويرى ان العالم لن يبقى اشتراكيا او رأسماليا الى الابد ، ويقول نحن نؤمن بالخط الثالث ونعتقد ان الدنيا لن تظل لا مثل شيوعية الصين ولا مثل راسمالية الولايات المتحدة ، الدنيا تقترب من خط ثالث شبيه بالنهج الاسكندنافي ، رافضا بالطبع ان يتسلط رأس المال على الدولة ، واذا كان لا بد لطرف ان يتسلط على طرف اخر ، فالدولة برأيه هي الأولى بالتسلط ، أما موقفه من الاقتراض ، فإنه يقول ، ان كل قروض العالم و مساعداته ، لا تكفي لبناء الوطن وتشييده ، وانما يبنى الوطن بعرق المواطنين وعزائمهم .
ويرى ان الدولة بمفهومها الحديث يجب ان تكون رائدة ومنسقة للعمل الوطني العام ، فالإنسان الحديث برأيه يريد من الدولة أن تكون إطارا عاما ينسق حصيلة كل المجهودات والانتاجات الروحية والمادية والفكرية التي ينبض بها كيان كل مواطن او تنتجه يداه ، وفي هذه الحالة كما يعتقد تصبح الدولة رمزا فعالا لكل مواطن فيها ويساهم في عونها ودعمها وهدايتها ومراقبتها ، اي انها تصبح كيانا حيا ، وواجب هذا الكيان الحي أن يسعى بشكل مستمر للوصول بالوطن والمواطنين إلى مرتبة الغنى الروحي والمادي ، وخلق المناعة والقوة الذاتيتين اللتين تحميان هذا الغنى ، وبعكس ذلك تصبح الدولة كيانا ماديا رهيبا لا صلة بينه وبين المواطنين ، سرعان ما يتعثر ويفقد معناه.
وبكل ايمان ، يفهم وصفي مشروع الدولة الاردنية على انها استمرارية للثورة العربية الكبرى ورسالتها واهدافها في الوحدة والتحرر والنهوض والانعتاق ، ولذلك فهي مشبعة بالمناعة الذاتية ، استنادا لمرتكزاتها التاريخية ورمزية قيادتها الهاشمية ، ويرى ان هذه الدولة رغم الصعاب فقد اثمرت مسيرتها ما يشبه الاعجوبة في المجالين الروحي والمادي ، ومن منطلق إيمانه هذا سيعارض حكومات اخرى جاءت بعده ، حتى وهو عضو في مجلس الاعيان ، وسيحجب الثقة عن قانون الموازنة العامة مرتين متتالين ، عامي 1969 ، 1970، ملقيا بكل ثقله ضد حكومة ذلك الزمن ، وسيتهمها في خطاب حجبه للثقة عن الموازنة بتمييع الدور الطليعي للأردن ، وأنها تحولت للاستجداء الفكري ، ويصفها بانها عديمة الولاء للوطن ورسالته ، ويأخذ عليها لهاثها وراء الحل السلمي ووراء التوهمات السرابية للحل الذي لن يأتي ، وسيلاحظ ان تلك الموازنات التي حجب الثقة عنها ، انعكاس لخواء الحكومة التي لا تعرف خطتها ولا طريقها ، ويؤكد ان الحكم ليس واجهة نفوذ واستغلال بل هو عمل وقدوة ، وعندما تميع الامور ويتفشى الاستهتار في مستويات الحكم ، تنتقل وتتفشى هذه الميوعة خارج الحكم ، وعندها لا نستطيع ان نلوم من هو خارج الحكم على تفشي نفس العيوب التي يعاني منها الحكم نفسه.
اما حين يعود الى الحكم ، بعد ذلك ، فسيشرح بدقة مفاهيمه للحكم الحديث والتزامه بشرعة حقوق الانسان الاممية ، وسيلاحظ ان العرب حين يتحدثون عن حالة التخلف يعممون ، فلا احد يتحدث عن مظاهر التخلف واسبابه في بلده ، ويقول اننا في الاردن نحمل من التخلف مثلما يحمل اخواننا ، ولذلك على الحكم ان ينزع عن الحياة الاردنية كل ثيابها البالية ويعيد خلق الحياة والانسان ، وخلق الدولة الحديثة في الاردن المعاصر ، وسيقرر في بيانه الوزاري ان لكل مواطن حق التعليم والرعاية الطبية والطريق والماء والكهرباء والهاتف والخدمة البريدية ، اما حق المواطن في العمل فهو كحقه في الحياة والحرية ، ويذهب الى حد ضرورة تسهيل ان يكون لكل مواطن بيت ، وتوزيع قطع اراض للجادين في العمل على استغلالها ، بصورة قابلة للتأكد والمراقبة.
ويؤكد بوضوح على رسالة الحكم وفلسفته في الاردن ، ويرفض ان يتحول دور الاردن في العالم العربي ، الى دور المنفعل أو الاتكالي ، ويقول يجب ان لا نتردى في مواقف تجعل من السهل حتى على أولئك الذين ثبتت إدانتهم وانكشف فقرهم الخلقي والفكري ، ان يتهموننا بما ليس فينا ، ولا من شيمنا وخصائصنا ، وحين يصل الى قضية الفكر السياسي سيقول انه لا يريد الوقوع في العقدة التي تطرحها كلمة الشباب ، فالانتماء الفكري ليس مرهونا بسن معين او فئة او طبقة معينة من الناس.
ويضيف في بيانه، إن اسوأ أنواع الحكم في هذا العالم هو ذلك الذي لا يعرف ما يريد ، ولا يمتلك اهدافا يسعى الى تحقيقها ، عندها يتحول الحكم الى عصابة او الى تكية للتنابلة او الى اضحوكة وهزؤة في اعين الكثيرين ، وليس غير الفكر والمعرفة وسيلة لتحديد أهداف الحكم ورسمها وقيادة خطاه نحو تحقيقها على أساس راسخ من الوعي والفهم التقدمي ، فاخطر الافات التي تؤدي عادة الى تأكل الحكم في اي بلد هي التقوقع والتحجر ، فهما خير سماد يساعد على تكاثر الفساد واستشراء الانتهازية وانتشار الارتزاق وتمرد الجهل وتسلط الانحراف.
واخيرا ، لقد بذل المرحوم حسن التل ، جهدا ربما يكون فرديا ، في جمع ما تمكن من جمعه من أوراق وصفي التل ، وأصدر المرجع التوثيقي الوحيد عن فكره وسياساته ، لكن هذا المرجع الذي تزيد صفحاته عن 500 صفحة من الحجم الكبير ، يحتاج الى إعادة إصدار بطبعة جديدة منقحة ومصححة ، والى تبويب فصوله وموضوعاته بشكل اكثر دقة ، لكي يكون سهلا على اي قارىء ان يقترب من عالم وصفي وفكره وطروحاته ، وعندها يمكن تحويل فكر وصفي الى موضوعات قابلة للاطلاع والبحث والجدل ، والاستفادة منها كمرتكزات تقدمية حقيقية في العمل العمومي ، وتلك مهمة يمكن أن تتولاها جهة ما رسمية او غير رسمية ، ذات علاقة بالفكر والثقافة والسياسة في البلاد ، فكثيرون لا يعرفون وصفي بشكل موضوعي ، ويتساءلون أحيانا ، لماذا بقي هذا الرجل حيا في ذاكرة الناس.