يتحدث البعض في هذه الأيام ,تأثراً بما تعرضت وتتعرض له هذه المنطقة من أنواء سياسية عاصفة وشديدة, عن «الملكية الدستورية» والمؤكد أن هناك من يذهب بعيداً في أفكاره ونواياه بالنسبة لهذا الأمر بينما أن هناك من يردد ما يسمعه بعفوية وببساطة ويخلط بين هذه المسألة وبين المطالبة بالتخلص من التعديلات الدستورية التي أملتها ظروف طارئة استجدت في بلدنا وفي الإقليم كله منذ منتصف ستينات القرن الماضي وحتى منتصف ثمانيناته.
وبداية ,وهذا يجب أن يعرفه الذين يتحدثون عن «الملكية الدستورية» بنوايا حسنة, أن ملكيتنا الأردنية قد بدأت دستورية في عام 1946 وبقيت دستورية إلى الآن وأن ملوكنا الذين تناوبوا على العرش ,عبد الله الأول وطلال والحسين, رحمهم الله جميعاً, وعبد الله الثاني ,أمدَّ العليّ القدير بعمره, لم يأتوا بانقلابات عسكرية ولم يحكموا بأوامر عرفية بل أتوا وفقاً لنصوص الدستور وحكموا وفقاً لهذا الدستور الذي أجمع عليه الشعب الأردني وواصل الإجماع عليه حتى في ظل الظروف الصعبة التي مرَّ بها الأردن.
تنص المادة (24)من هذا الدستور على أن الأمة مصدر السلطات وتنص المادة(25)على أن السلطة التشريعية تناط بمجلس الأمة والملك وتنص المادة(26)على أن السلطة التنفيذية تناط بالملك ويتولاها بواسطة وزرائه وفق أحكام الدستور بينما تنص المادة (27)على أن السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها وتصدر جميع الأحكام وفق القانون باسم الملك وتنص المادة (40) على أن الملك يمارس صلاحياته بإرادة ملكية وتكون الإرادة الملكية موقعة من رئيس الوزراء والوزير أو الوزراء المختصين وتنص المادة (49)على أن أوامر الملك الشفوية أو الخطية لا تخلي الوزراء من مسؤوليتهم.
وهكذا فإن المؤكد أن الذين يطالبون بالملكية الدستورية إما أنهم لا يعرفون هذه الحقائق ,وهذا يستدعي أن يُدرَّس الدستور الأردني في جميع مدارسنا كثقافة وطنية, وإما أنهم يعرفونها ويعرفون أن احترام ملوكنا الذين تناوبوا على عرش المملكة الأردنية للدستور الذي ارتقوا على أساسه هذا العرش كان يتسم بالالتزام الصارم وبالقدسية المطلقة لكنهم يطرحون ما يطرحونه في أذهانهم وقلوبهم الصيغ الملكية في بريطانيا وهولندا واسبانيا والدول الاسكندينافية وبعض الدول الأوروبية .
نحن نعرف أن تياراً معيناً في قيادة جماعة الإخوان المسلمين يرفض هذه الصيغ من موقع الحرص على هذا البلد وأمنه واستقراره وهذا هو رأي الشعب الأردني كله ورأي غالبية الأحزاب والتيارات السياسية الأردنية كما أننا نعرف أن تياراً آخر في هذه الجماعة يذهب بعيداً بالنسبة لهذا الأمر ,ربما تماشياً مع وجهات نظر خارجية, وهو لا يقدر أن الملكيات الأوروبية وغير الأوروبية التي يعنيها لم تصل إلى ما هي عليه إلاّ بعد مخاضات لمئات الأعوام وبعد نضج التجارب السياسية في بلدانها وبعد استقرار مجتمعاتها طبقياً وسياسياً واقتصادياً وفي كل المجالات.
في بريطانيا على سبيل المثال بدأت الدعوة ليس للملكية الدستورية وإنما للملكية التي يملك فيها من يتربع على العرش ولا يحكم بعد ثورة كرومويل مباشرة في نحو العام 1660 وقد بقيت هذه الدعوة تتفاعل ويأخذ تطبيقها أشكالاً عديدة إلى أن استقرت الأمور بعد نحو مائة وخمسين عاماً حيث أصبحت الأمور على الصيغة الحالية التي لم تستقر إلا بعد نضوج الحياة السياسية البريطانية وبعد استقرار الأعراف والتقاليد التي تحمي هذه الصيغة وتحافظ عليها.
إن هذه هي الصيغة الملكية ,وليس الملكية الدستورية, في بريطانيا وفي العديد من الدول الأوروبية وفي اليابان في الشرق وهناك صيغة فريدة في تايلاند حيث يبقى من يتربع على العرش الملكي في البلاد مراقباً للأمور عن بعد ولكنه في حال وقوع أي خلل أو خطر أو انحراف يتدخل بصورة مباشرة ويتصرف وكأنه «الولي الفقيه» في إيران.
وهذا يعني أنه علينا ,قبل الحديث ,مجرد الحديث, عن صيغة الملك الذي يملك ولا يحكم والتي تقتضي وضع الشرعية الدستورية في يد البرلمان وفي يد الحكومة المنبثقة عنه والتي تقتضي أيضاً انتزاع صلاحيات الملك التي هي صلاحيات دستورية ,أن نمر بكل المراحل التي مرت بها الدول الملكية الأوروبية حتى وصلت إلى هذه الصيغة التي استقرت بعد نضوج المجتمعات هناك وبعد أن توطدت الحياة السياسية بحيث لا انقلابات عسكرية ولا محاولات للوصول إلى السلطة بالقوة ولذلك بغير هذا فإن الذين يطالبون بصيغة كالصيغ الأوروبية ,بينما بلدنا لا يزال لم يصل حالة الاستقرار التي تسمح بهذا حيث لا يزال مجتمعنا مجتمعاً لم يستقر بعد في الوضعية المدنية وحيث أن المنطقة كلها لم تستقر بعد لا سياسياً ولا اجتماعياً ولا حتى ديموغرافياً, إنما يريدون دفعنا من خلال حرق المراحل إلى مغامرة ستكون بالتأكيد مكلفة وغير مضمونة العواقب.
(الرأي)