التاريخ وتوظيفه في المعارك القانونية
د. مصون شقير
10-12-2023 11:04 AM
عندما يُعِّد المشتغل بالقانون عُدّته لخوض معركته القانونية فإنه يلوذ ابتداءً بالتشريعات التي تتضمن قواعد قانونية يمكن له الاستناد اليها في تكييف الوقائع التي يدّعيها وعلى الوجه الذي يحمي مركزه القانوني، وإذا كانت القواعد القانونية هي انعكاس تنظيمي للمجتمع، إلا أن ذلك لا يعني بأن مجريات الحاضر هي وحدها مصدر وحي المشرِّع، بل يمكن له أن يستقي من سياقات تاريخية معينة ما يعينه على إنتاج النص القانوني الذي ينظم الحاضر، بل يمكن أن تتعلق القوانين حصراً بتوثيق التاريخ وحفظ الذاكرة.
ولعل الكيان المحتل أكثر من أتقن مهمة توظيف التاريخ في محاولة إقامة بنيان قانوني يعتقد معه أنه يسوِّغ وجوده الاستعماري الاستيطاني ويحميه من أية إدانه لأعماله العسكرية البربرية، وذلك من خلال الضغط على حكومات الدول الغربية لإصدار قوانين تمنع إنكار محرقة اليهود ثم ربطها بمعاداة السامية، وقد استجابت عدة دول لذلك تحت وطأة الشعور بالذنب ومنها ألمانيا والنمسا وسويسرا وايطاليا، وكذلك في الضغط على الهيئة الأممية بحيث تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2022 قرارا يدين إنكار المحرقة واعتبار هذا الانكار من قبيل معاداة السامية، وعلى الرغم من أن هذا القرار ليس له صفة قانونية ملزمة إلا أن له تأثير على الصعيد السياسي كما سنرى.
إن استخدام الكيان المحتل للتشريعات كوسيلة لتأكيد حصول المحرقة ظاهرهُ تكريس الذاكرة الجمعية وحماية التاريخ لكن حقيقته هو التلاعب بالحاضر كما يقول الكاتب الإسرائيلي بواس ايفردن، فقرار الجمعية العامة الذي يربط بين إنكار المحرقة ومعاداة السامية وكذلك التعريف الجديد الموسّع لمعاداة السامية الذي استحدثه التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة والأمثلة الفضفاضة التي أرفقها معه مما يعتبر معاداة للسامية - والذي تبناه الاتحاد الأوروبي بالكامل- كاعتبار وجود دولة اسرائيل مسعى عنصري أو انتقاد دولة اسرائيل وتحت طائلة المسؤولية الجنائية يهدف جميع ذلك الى إضفاء الشرعية على وجود دولة الاحتلال وتبرير سياساتها الإجرامية، وحمايتها من أي انتقاد أو محاسبة أو مقاضاة على ممارساتها القمعية البربرية ضد الفلسطينيين، وأصبح يكفي وكما يشير مدير المركز الأوروبي للدعم القانوني ومسؤولة الاتصالات فيه لأي مشتكي أن يدّعي بأن أية كلمات أو رسومات أو تعليقات تمثل معاداة للسامية حتى يبدأ التحقيق ودون أن يكلّف عبء إثبات ادعاءاته، ونتائج التحقيق في العادة لها آثار مدمرة في الغرب على من يثبت معاداته للسامية على صعيد حياته الشخصية والمهنية.
يضاف الى ما تقدم فإن تثبيت واقعة إبادة وملاحقة وتحقير اليهود في أوروبا يهدف إلى إبقاء الشعب الإسرائيلي في إطار الضحية وفي موقع الدفاع عن النفس، وبالتالي فإن أية أعمال مقاومة تُوّجه إليه يقوم هو بتوصيفها على أنها أعمال إرهابية وصادرة عن فصائل ارهابية، وأن أعماله العسكرية المقابلة هي مجرد ردود أفعال ضد الإرهاب والكراهية الموجهة اليه، وهي دفوع أثارها الكيان المحتل وحلفائه، وسيثيرها هذا الكيان حتما في أية مواجهة قضائية له أمام أية محكمة دولية إن حصلت بمناسبة الحرب على غزة.
وفي سياق مضاد لوقائع التاريخ وبقصد تزييف الذاكرة قامت دولة الاحتلال بإصدار قانون النكبة في العام 2011 والذي بموجبه تتم معاقبة أية مؤسسة أو جمعية تقيم فعاليات لإحياء ذكرى النكبة بدلا من ما يدعى يوم الاستقلال الاسرائيلي وذلك بسحب تمويلها أو بتقليص نفقاتها، كما ويعاقب كل فرد يخالف هذه المادة بالحبس أو دفع غرامة مالية.
إن التشريعات والقرارات التي توصل الكيان المحتل الى استصدارها كانت ثمار جهود بذلها على مدى عقود من خلال خبراء ومنظمات متحالفة مع الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة والمدعومة من الغرب الإمبريالي، بالمقابل فقد كان العرب وعلى مدى هذه العقود غارقين في ارتدادات النكبة والنكسة والخلافات البينية ومن ثم في أوهام السلام التي لم تزدنا إلا ضعفا واستكانة، ومع ذلك فإن الفرصة لا زالت سانحة لأن تعمل الدول العربية مجتمعة على توظيف أحداث التاريخ الحقيقية في خدمة معاركها القانونية القادمة من خلال إصدار قوانين وطنية تجرِّم إنكار النكبة الفلسطينية وتلاحق مرتكبيها بالحبس أو بالغرامة داخل دولها أو خارجها وخاصة أن آثارها لا زالت قائمة حتى اليوم، وعلى الرغم من أن الرئاسة الفلسطينية أصدرت قرارا بقانون بمنع إنكار النكبة في العام 2023 إلا أن أوضاع السلطة الفلسطينية لا تسمح لها بمنح هذا القانون الزخم اللازم والبناء عليه، وبالتالي فيجب أن تجتمع الارادة العربية الرسمية على إصدار هذه القوانين الوطنية وصولا الى الطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة اصدار قرار بمنع إنكار النكبة الفلسطينية.
إن إصدار هذه القوانين من شأنها ابتداءً نفي السردية الاسرائيلية التي تنكر بموجبها اسرائيل النكبة والمسؤولية عن حدوثها بادعائها بأنها لم تجبر عرب فلسطين على ترك منازلهم والرحيل عنها بل هم من نزحوا من تلقاء أنفسهم بناء على اقتراح من الجيوش العربية قبيل حرب 1948 كما لم يجبرهم أحد على عدم العودة بعد انتهاء الحرب، وبالتالي تقويض البنيان القانوني - المستند في جُلِّه إلى معطيات مغايرة للواقع - والذي أقامه الكيان المحتل مع حلفائه ليحتمي بموجبه من الانتقاد والمساءلة، وعلى صعيد آخر فإن ذلك يعني من الناحية القانونية أن الكيان المحتل هو دولة احتلال وأن أعمالها العسكرية البربرية تقع تحت طائلة المسؤولية الجنائية بموجب الاتفاقيات والقوانين الدولية، وأن مقاومة الاحتلال هي أعمال مشروعة، وأن فصائل المقاومة هي كيانات شرعية وليست إرهابية، كما وأن لأصحاب الأرض حق العودة اليها وإقامة دولتهم كاملة السيادة، وهذه هي الركائز القانونية الأساسية التي نحتاج اليها في معاركنا القانونية القادمة مع الكيان المحتل.