لا شيء سوى الريح تضرب تلك الردوم، حيث غاب الشقيق عن تضور أحشائنا وصرنا نرضع من ثدي الأرض ما تبقى من ظلال، نقاوم حتى آخر قطرة من دم، ونكتب تاريخنا التليد مرة أخرى، بصورة أخرى، بنار تشبه توهج شمس الصيف، لقد فهمنا تماما أن سقوفنا قد نُزِعتْ وصار السماء هو سقفنا البعيد القريب، لم نك نعلم حجم البؤس الراقد في مفاصل الجغرافيا، حيث لثغت الضاد وصارت ترطن بمفردة الحرب، نموتُ في جمهوريات الظل ونبقى نشعل من أضلاعنا شمعة تبني طريقا واضحا لكرامة الوطن.
وقع الأقفال المؤصدة يكسرها البحر، يجعلنا نتذكر كل ما نسيناه، انها الحرب يا سيدة التراب، يصبح الموت أكثر وضوحا وعفوية، نركض خلفه فيعطينا الحياة، كل شيء بدا في مكانه، الشقيق وهو يتدثر بريش الهزائم، والصديق وهو يهرب من وطأة الصمت، كل شيء هنا لا يقبل القسمة على أثنين، فالقبر لا يتسع لأثنين وكذلك الوطن، بوفرة الخيوط ننسج خيمةً تكفي لضيوفنا، فكل امرأة أصابها العويل ستكون زيتونة باسقة في حوش الدار، هي الحرب كذلك تغربل الرمل وتكشف عن زوان الملح، كل مسخ ذوى في لحافه سيبكي أمام المرآة، كل خديعة تصدأ في ظهري محض ثقب أرى فيه وطنا غائرا في الصهيل، الدماء التي خبأناها قطرة قطرة رصاصة ساخنة في جوف القلب، من مطرقة الخيانة وسندان الصمت وأفول الصديق نبني مغائر للوقت المضيء، ونؤوب محملين بأدعية عالية ترفع من خسيف الأرض جبلا محالا.
لم يعد مقبولًا حيال تنامي المظالم وانتهاك الكرامة والابادة على ما يحص في غزة اليوم، رائحة الشواء البشري وأعضاء تتناثر كجذوع الأشجار وصرير دبابة تسحق البيت والعشب، والصمت أصبح قيمة عليا تحت وطأة العويل، فلم نشتبك بعد مع واقع تجاوز حدود الوصف، كل ذلك يخيفني، فإذا لم نصرخ أمام تلك المشاهد الدامية بحجم جحيم سوريالي متى سنفتح أفواهنا بالحقيقة، والصمت خيانة عظمى، عبورٌ آخر لنهر أترع بالدم بجوارنا، تمشي ضفافه وتحمل في حقيبتها أسئلة مربكة ثم نصمت مرة أخرى، ويسقط شهيد طازج ونحن نتناول قهوتنا الباكرة، كأن شرفتنا تطل على غابة من جثث القتلى ونصمت، كأنّه الجواب على أسئلة لا جواب لها، من أيّ نوع نحن فلم يعد بمقدورنا الوصول إلى سدة الكتابة كي يسيل حبر المظالم، فقد خدعنا غرامشي في حديثه عن المثقف العضوي الذي يعيش هموم زمنه ويرتبط بقضايا أمته.
مع كلّ صبح مرآتي لأرى صورتي المليئة بالشوك، صورة يتألم في قسماتها الحزن، كأن وجوهنا معدن تصفح ضد الحزن، فنحمل هزائم تكدست فوق أكتافنا، لا سقف إلا السماء ولا وجاء سوى التراب، حيث يغدو الرغيف عزيزاً، والأشلاء محض لحم ينهشه الفراغ.
فأمام المدافع البكماء لا قيمة لشيء، أما كان يمكن أن نشعل النار فوق أعراف الجبال، أو نركض بحرية الطير باتجاه شاطئ غزة، فمن قاوم نجا ومن تجاوز هوى في بئره المكتوم.
قدرهم أن يكونوا هناك، يتبعون آثار أقدامهم التي خبرت صورة الأرض ذرة ذرة، أحذيتهم التي حملتهم في ممرات الردوم ترسم كل طريق يفضي للحقيقة، وغرة ترفع رأسها لشارات النصر هناك، شرفاتها مشرعة على القصف والردم، والملثم يكتم أنفاسه كي يصطاد حياته في المعدن، ربما نحلم كما يحلمون، لكننا خلف جدر نلهث ولا حول في أقدامنا ولا خطوات، ربما نلحق الحلم، أو ننكص إلى غابر أزمان الهزائم، فلم يعد بمقدورنا اللحاق بضوء الدم فالاحتفال قد فاتنا وصرنا مجرد حجر يغويه الصمت ولا يقوى على الحركة.
يقول الشاعر الاسباني مارتينيز فليلشيس: أمَّهاتُ غزة، لا أعْلمُ إن كُنتُ أستطيعُ كِتابَةَ شيءٍ عَن المَعرَكة، عَن شظايا حَياتِك اليومِية، عَن الانفجار، عَن القسوة، عَن الدم، عَن الخوف، أمَّهاتُ غزة، لا أعْلمُ إن كُنتُ أستطيعُ الكِتابَة عن هذا، لأن لَحظَةَ نحت أشعاري لمْ تحِن، صَوتي صامت.