كنت في العاشرة من عمري عندما جلست لأول مرة على شاطئ بحر غزة الأزرق، ألقي نظرة على مراكب صيادين تتعدد ألوانها بين لون السماء، ولون الليمون، والبرتقال، والورد الجوري، لكن البحر أخذ جل اهتمامي، أعد الأمواج موجة وراء موجه، أستمع إلى الهدير، وأحاول أن أمسك الزبد الأبيض بيدي، أدهشني بحر غزة، وأتساءل عن سبب خلو الخليل من شاطئ بحر.
كان بحر غزة أول البحار، وأول شاطئ، وأول سمكة أمسكها بيدي فور اصطيادها على يد صياد، وكان كازينو أبو هويدي، أول كازينو أجلس على مقاعده على شاطئ بحر، أدهشتني مراكب الصيادين، وصبيان غزة الذين لا يخشون البحر، ويركبونه على ألواح خشبية صغيرة تشبه دكّة الموتى، ويبحرون إلى مسافات عميقة، وكنت جباناً، لم أكن قد عرفت البحر من قبل، أكبر مساحة تجمعها المياه في الخليل؛ بركة السلطان، مياهها ملوثة في الغالب، راكدة، آسنة، وأما هذا البحر، فهائج ومائج، وأدهشتني رمال البحر، وأصدافه، وأخذت أحلم بأن يكون لي في بحر غزة أثراً، وأن أترك لي فوق مياه هذا البحر مركباً يطفو على صفحته، عقدت ربّاط فردتي حذائي الذي فصّله لي أبي قبيل العيد، وألقيت حذائي في البحر، حذرني لحظتها رفيقي جميل البورنو، من أن الحذاء ربما يغرق، حاول أن ينهيني عن فعلتي، رفضت الإصغاء إليه، وجلست أراقب رحلة الحذاء الذي تقاذفته الأمواج، وأنا أراهن على قدرته على الصمود أمام تلك الأمواج العاتية، لكنه سرعان ما غاب عن ناظري، وعدت إلى الرمال في نهاية اليوم حافياً.
ما الذي أعادني إلى ذلك اليوم لأتذكر مقولة أن أهل الخليل، قطع غيار أهل غزة؟ أعادني إلى زرقة بحر غزة، ورمال شواطئه الناعمة، وأصدافه المتوسطية الخلابة في وقت تدمر فيه البيت، والكازينو، والمركب، والمقهى، والمطعم، والمخبز، وتحرق فيه الشباك، وتقصف البيوت على رؤوس أهلها، والمساجد، والمستشفيات، ويموت عشرات آلاف من صبية، هُم في أعمار أؤلئك الذين كنت أراقبهم يركبون البحر، ويلقون بأنفسهم في أحضانه باطمئنان وسعادة؟ ما أعادني إلى بحر غزة، تسجيل صوتي لصديقي التاريخي الخليلي نبيل عمرو، أرسل لي التسجيل بصوت نبيل، الصديق الروائي التلحمي بهاء رحال، سألته بعد أن سمعت التسجيل فيما إذا كان خاصاً، أم أن نبيل نشره في مكان ما، السبب أن "كتوبة" نبيل أدهشتني، كما أدهشني في طفولتي بحر غزة، قال لي بهاء: وصلني التسجيل من مجموعة، وأحببت أن أشاركك إياه، لكن ليس لدي فكرة فيما إذا كان قد نشر، فاتصلت على الفور بنبيل عمرو الذي تربطني به صلة صداقة حميمة، وخؤولة، إضافة إلى ما تجمع به الخليل أهل الخليل من نجوى، وعبرت له عن إعجابي الشديد بالنص الذي راق لي، وشحنني بالشجن والحنين إلى بحر غزة.
يقول نبيل عمرو، أنه لو عاد آرنست همنغواي ثانية إلى الحياة، لكتب "غزة والبحر" بدلاً من "الشيخ والبحر" التي تحكي قصة صياد عجوز توغل في البحر ثلاثة أيام، وليس معه سوى سمكة واحدة، واستطاع اصطياد سمكة قرش، لكنه فشل في سحبها، ما تسبب في استجلاب مزيد من أسماك قرش جذبتها رائحة الدم، فوجد "سنتياغو" العجوز نفسه يحارب المزيد من أسماك القرش، يصارعها وهو لا يمتلك قطرة ماء للشرب، أو كسرة من خبز، قبل أن يعود سالماً إلى الشاطئ، ويلقي بجسده على رماله وهو يفكر في العودة إلى البحر. اقترب صبي رافق الشيخ في رحلاته البحرية، وسأله: متى ستعود إلى البحر، وهل ستأخذني معك؟ قال "سنتياغو" العجوز: سأعود بعد أن تشفى يدي، وسآخذك معي لأنني أحتاجك. واجه العجوز البحر وأسماك القرش، وصمد في مواجهة الجوع والعطش، وانتصر وعاد سالماً.
كنت أستمع إلى الأخبار التي لا تطاق، الاحتلال هدم المسجد العمري التاريخي في غزة، وبعد قليل هدم مسجد يافا في دير البلح، وأخرج مستشفى يافا المجاور عن الخدمة، وقبلها مسجد ابن عثمان في حي الشجاعية، ومشاهد دمار لا تتوقف، ودماء تسيل في كل حي من أحياء قطاع غزة، لكن البحر ما زال هناك، وما زال في غزة شيوخ كثر بعزم "سنتياغو"، بل أشد عزماً من ذلك الشيخ الصياد، وما زالت غزة تكتظ بمثل ذلك الصبي الذي رافق "سنتياغو" في رحلاته البحرية الخطرة، لله درك يا نبيل عمرو، كيف أعدتني إلى التقاط الأنفاس وسط هذا الموت، وكيف قدتني إلى الحكمة وسط هذا الجنون.
البحر سيبقى في مكانه بحر غزة، وأهل غزة سيظلون على أرضهم، يواجهون الأخطار جيلاً بعد جيل، دم القرش استجلب أسماك القرش، كما جنود الاحتلال الذين تفتح الدماء شهيتهم على القتل، لكنهم يلاقون حتفهم كما لاقت أسماك القرش في البحر حتفها على يدي "سنتياغو"، إنها الإرادة والصلابة، وفي غزة أساطير مواجهات بين البر والبحر، ويمكن كتابة روايات عديدة عن هذه المواجهة، ربما يأتي من يكتب: أبو عبيدة والبحر، الأقصى والبحر، نقطة الصفر والبحر، ربما يأتي الربح من البحر، والحبر من دم الشهداء، ربما نكتب يوماً عن العطش والبحر، الرماد والبحر، غزة والبحر، النصر والبحر، دكّة الخشب والبحر، التمر والبحر، الشفق والنفق، ومن يدري، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، لعلني أصنع يوماً قارب صيد ، أبحر فيه وأحبابي من بحر غزة إلى ميناء يافا، ونحن نغني، مثلما كنا نغني: سنعود يوماً إلى حيّنا.